سؤال موجع... أليس كذلك؟ ولكنه ظل يلح عليّ وأنا أتأمل الوضع العراقي وما ينطوي عليه من تعقيدات آخذة بالتزايد يوما بعد يوم. على ان إجراء مقارنة سريعة بين الرجلين ستضعنا على طريق تمييز التبر من التراب.

الرجل الاول محاضر محمد، زار اسبانيا في السبعينات، وبهره ما شاهد من آثار عمرانية تدل على ما وصل إليه المسلمون أيام حكمهم في الاندلس من حضارة وعمران. عاد إلى بلاده وهو يفكّر في كيفية النهوض وتحقيق التقدم لبلدٍ آسيوي مازال يخطو خطواته الأولى متلمسا الطريق، ونجح الرجل في نقل بلد متخلف يعتمد على المنتجات الزراعية إلى دولة غنية وصناعية بارزة في منطقة جنوب شرق آسيا. هذا النهوض أوصل البلاد إلى مستوى مازال العرب بدولهم الاثنتين والعشرين يعتبرونه «معجزة» لا يمكن حتى التفكير بالوصول إليه!

وماليزيا، تلك الدولة الآسيوية المسلمة، لم تكن تزيد ثرواتها على العراق أو دول الخليج، ولا مساحتها على الجزائر أو السودان، ولا تعدادها على مصر أو المغرب. بل انها أصغر مساحة من العراق بأكثر من 100 ألف كيلومتر مربع، وأقل تعدادا منها أيضا بمقدار 8 ملايين نسمة تقريبا... ولكنهم نجحوا هناك، فيما حققنا هنا أبشع درجات الفشل والجمود.

في ماليزيا استطاع الرجل العاقل الرشيد أن يأخذ بيد بلاده إلى طريق التقدم العلمي ووضعها في مقدمة صفوف الدول الآسيوية وأحد أكبر نمورها، ورسم لها سياسة مستقلة يحترمها العدو قبل الصديق. وعندما تكّلم بصراحة عن «اسرائيل» في مؤتمر القمة الاسلامية الأخير الذي استضافته بلاده أخيرا غضب الكيان الصهيوني وثارت ثائرة أنصاره، وغضبت الولايات المتحدة الاميركية وصدرت عنها التمتمات بانتظار سماع الاعتذار. وحتى عندما حاول وزير الخارجية الماليزي تقديم شيء من الاعتذار، عاد محاضر ليصرّ على أقواله وزاد عليها، وخاطب أميركا قائلا: «إذا كنتم ذبحتم الهنود الحمر واغتصبتم ارضهم فلأنهم لم تكن لديهم وسيلة للمقاومة، أما من يستطيع المقاومة فسيقاوم»، في إشارة إلى الفلسطينيين... فاضطرهم إلى السكوت. فإذا كنت تحترم نفسك، فستفرض على عدوك أن يحترمك.

«مهاتيرنا»!

هذا والدول العربية الاثنتان والعشرون لا تجرؤ احداها اليوم على انتقاد ما تقوم به «اسرائيل» من عمليات تصفية وقتل وهدم منازل واستباحة قرى، وأقصى ما تقوم به أكبر وأقوى دولة عربية تعتبر نفسها «أم العرب» هو «التلطف» معها لمراجعة نفسها عن هذا العمل «غير المقبول». أما البقية فقد سنّ بعضها القوانين حتى لا تصل تبرعات الشعوب العربية إلى عوائل أيتام وشهداء فلسطين المنسية، وبعد هذا نريد أن يحترمنا العالم أو يقيم لنا وزنا!

محاضر محمد حكم بلاده 22 عاما، (منذ 1981) وفي خاتمة المطاف أعلن تنحيه عن الحكم وأتاح المجال ليدٍ أخرى لتحمل عنه المسئولية. لم يختر ابنه أو أخاه أو ابن عمه انصياعا لنزعة غريزية ساذجة، وإنما اختار ما انتجه النظام السياسي الطبيعي الذي أخذ مداه، وتعالى على ميراث الحكم العربي في حكم الشعوب بالبيعة والشراء! تنحّى محاضر بهدوء، تاركا وراءه بلدا يسير على الطريق الصحيح. أما صدام فقد قفز إلى الحكم في العراق في الفترة نفسها تقريبا (1979)، وقبلها كان يكمن من وراء الستار، وسار بالبلد من مطبٍ إلى مطب، وساقها سوقا عنيفا من حربٍ إلى حرب، وكلّف شعبه وجيرانه تلك الخسائر التي تجل عن الحصر، ماديا وبشريا وانسانيا.

الأول تنحى سالما آمنا، وبلده في منتهى الأمان، والثاني تركها منهكة مدمرة في فوضى مستحكمة وفرّ إلى جحرٍ تحت الأرض خوفا من شعبه أكثر من خوفه من الأميركان. فهؤلاء يمكن أن يتفاهم معهم أو هكذا يحلم من جديد على جاري ما ألِفه سابقا من تفاهماته المعتادة على حساب الأهل والجيران، أما الشعب فلو ظفر به لكان مصيره السحل في الشوراع انتقاما مما أورده فيه من المهالك والمحن والآلام.

ولم يجد له في خاتمة رحلة الزور إلا عددا من المحامين العاطلين عن العمل، الفاشلين في المهنة، الذين لم يصونوا قسمهم عند التخرج بالدفاع عن المظلومين، ليدافعوا عن طاغية مستبد أمام محكمة لا يحكمها الضمير الحي ولا تسيّرها غير شريعة الزور والبهتان.

ومرة أخرى: ترى... ماذا لو حكم العراق طوال الثلاثين عاما الماضية شخص عاقل مثل محاضر محمد، تركز تفكيره في التقدم والصناعة والعمران كيف كان سيكون العراق؟ وكيف كان سينعكس ذلك على المنطقة والجيران؟