العدد 480 - الإثنين 29 ديسمبر 2003م الموافق 05 ذي القعدة 1424هـ

قضية عجفاء ومحامون كالنوق المهازيل!

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

هل على الامة أن تبقى تعاني على الدوام من مشكلة التنظير؟ حركة التنظير من الداخل خرّجت للأمة مثقفين يطلون على الناس من أبراج عاجية، أما حركة التنظير من خارج مواقع الحدث فانها خرّجت مثقفين يطلون على الناس من أبراج فارغة معلقة في الهواء. أذكر ذلك وأنا أقرأ ردود الفعل «العروبية» الغاضبة على اعتقال «الزعيم» صدام حسين. وهذه المسألة تلقي الضوء على الازدواجية التي يعيشها جزء كبير من الشارع العربي المصاب بـ «الفصام الحضاري»، فهو يرفض الظلم من حاكم بلده بينما يطبّل لظالمٍ لم يوفر وسيلة اضطهاد إلا استخدمها لقمع شعبه، فقط لانه أطلق صاروخا باتجاه «اسرائيل»، أو شكّل «جيش القدس» الذي لم يحسن غير إثارة الغبار في ساحات بغداد المتربة، في سياق سياسة رفع الشعارات التي تدغدغ العواطف وتتلاعب بالعقول المخدّرة والمستلبة في حب الزعيم.

وما أبعد المسافة بين التنظيرات الأيدولوجية وبين الواقع المعاش، هذه المسافة هي السبب وراء موجة الحماس الشديد للدفاع عن صدام حسين، اذ بلغ عدد المتطوعين الأردنيين حتى يوم أمس 600 محامٍ، فيما لم يتجاوز العدد لدينا اثنين أو ثلاثة فقط والحمد لله!

على أن قلة المحامين المتحمسين للدفاع عن صدام لا يعني ان ليس له محبين مخلصين ما زالوا يرددون الشعار الوثني المأزوم: «بالدم نفديك يا صدام»! والدليل هذا الدفاع المستميت عن الطاغية في الرد «القومي» على الزميل عباس بو صفوان، هذا الرد الذي وقع في شبكة ضيقة جدا من «المذهبية الحزبية»، إلى درجة لم يتطرق فيها إلى الرد على الانتقادات، فجاء صدى باهتا للشعارات الرنانة التي طالما سمعناها من صوت بغداد و«صوت الجماهير» على مدار ثلاثة عقود.

الرد «القومي» لم يقنع أحدا من المتابعين الحصيفين، فهو لم يتوقف عند الانتقادات الموجهة لصدام بقتل وتشريد وتعذيب الملايين، ولا نقول الآلاف أو عشرات الآلاف. فالرجل مطلوب بدماء مليون ضحية على الأقل، غير الأعداد الضخمة من المشرّدين والجرحى والمعوقين والأيتام والأرامل من العراقيين والايرانيين والكويتيين، الذي تسبّبت سياساته الهوجاء في مآسيهم، الذي أراد العرب أن يبايعوه على نزواته وشططه، مادام كل ما يفعله هو الحق المبين! وهذه هي النبرة السائدة في الرد السالف الذكر. فالمقال ينطلق من موقف تقديسي مسبق: «صدام لا إله إلا هو»، لم يخطئ ولم يذنب، وبالتالي كل ما يقال عن المقابر الجماعية والسجون تحت الارض انما هي زور وبهتان! والحرية أمر لا يستحق النقاش مادام صدام في المعتقل! وحقوق الانسان لا تستحق البحث مادام طبيبا أميركيا بحث عن القمل في شعر الرئيس وأهان بذلك العرب والمسلمين والعالم أجمع!

على أن أكبر ما يواجه المدافعين المتحمّسين عن صدام هو تهمة عدم اقامتهم أي اعتبار لشيء اسمه «انسانية» على الإطلاق. «الحرية» التي دفعت البشرية ملايين الضحايا في شرق الأرض وغربها على مدار القرون من اجل إرساء قواعد لحفظها، مازال هؤلاء يضربون بها عرض الجدار. كل ما قرأناه شعارات مكررة و«مرافعات» ضعيفة، من اجل قضية باطلة، ودفاعا عن شخص إذا أنصفه التاريخ فانه سيضعه على رأس قائمة الطغاة عبر القرون.

هذه المرافعات الانشائية أعجز من ان تمحو من الذاكرة حقائق عشناها طوال عقدين أو أكثر. وليس شعب البحرين بحاجة إلى من يعلّمه القومية، وخصوصا إذا انحصر مفهوم القومية في شخص اسمه صدام. هذا الشعب كان واعيا من قديمٍ بـ «قضية» صدام من بداية تسلقه الكرسي الأحمر، ونحن لا ندعي تمتع شعب البحرين بعبقريةٍ من نوع خاص، وانما هناك عوامل موضوعية دينية وثقافية واجتماعية معروفة، جعلت البحريني على اطلاعٍ وصلةٍ مباشرةٍ بالواقع العراقي، وهي شهادة سيظل البحرينيون يفخرون بها طويلا كما يفخرون لدخول أجدادهم الإسلام طواعية من دون قتال.

زفة القرن!

وتنشيطا للذاكرة، ولكي لا يحاول البعض تزوير التاريخ من جديد ونحن مازلنا أحياء، نذكّر بحركة هذا الشارع منذ مطلع الثمانينات، وترديده الشعارات المناهضة لصدام، في الوقت الذي انطلت فيه دعاوى صدام وأكاذيبه على كثيرين، مثقفين وغير مثقفين، ساسة وغير ساسةٍ، فاندفعوا وراءه يطبلون ويصفقون في القادسية التي أرادها زفة القرن العشرين!

قبل ليالٍ شاهدنا أحد أعمدة الدفاع المستميت عن صدام حسين في فترة الثمانينات، شاهدناه يتحدث كالمخمور على فضائية عربية، ويعترف بالحرف الواحد قائلا: «لقد خدعنا صدام»! ويشهد الله انه لم يخدع شعب البحرين. وحين كان الإعلام العربي كله مجندا لدعم صدام والمشاركة في تشييد مجده الكاذب، في تلك الفتنة المدلهمة، كان هناك من أبناء هذا الوطن وشبانه من يلجأ إلى الجدران لكتابة الشعارات المعبّرة عن ضمير هذا الشعب وموقفه الواضح كالبلور من صدام، على رغم ما كان يعنيه ذلك من ملاحقة وعذاب. وإذا كان هذا الشعب لم تخدعه أو تستخفه شعارات صدام أيام المحنة والبلاء، فهل هناك من يتصور أن العبارات الانشائية الهاربة من استحقاقات المحاسبة كفيلة بإقناعه بان صدام بريء من 90 في المئة من التهم الموجهة إليه!

هل هو نوعٌ من الاستخفاف الجديد بالعقول في وقتٍ انكشفت فيه كل الاوراق؟ حتى الأباطرة من حملة الأقلام المتقاعدة التي كتبت وشاركت في ترويج الأكذوبة الصدامية بالامس انسحبوا من الساحة، أو بتنا نقرأ لهم اعتذارات مبطنة عما كتبوه، حتى حسبناها رغبة في التكفير. حتى من تسلّموا سيارات «مرسيدس» فضلوا الصمت، سواء لأن القضية خاسرة، أو لانقطاع المدد وإغلاق مصرف الرافدين!

كل الجرار تكسرت واندلق اللبن، إلا جرّة التجمع القومي الحزينة، التي ما كنا نتمنى يوما أن تقفر من النبض الإنساني أو الشعور النبيل. جرّة عميت عن رؤية سكان القبور الجماعية التي عثر على بقايا عظامهم وهي مازالت مقيدة المعاصم إلى الخلف، يقدمون على رب العزة غدا، «يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين»

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 480 - الإثنين 29 ديسمبر 2003م الموافق 05 ذي القعدة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً