العدد 481 - الثلثاء 30 ديسمبر 2003م الموافق 06 ذي القعدة 1424هـ

من أم الحواسم إلى أم المفاجآت!

عام الرمادة والقحط العربي

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

اليوم الاربعاء ينتهي عمليا وتاريخيا العام 2003، بكل ما حمله لنا من مصاعب ومتاعب، بل ومآسٍ.

لكن توابع هذا الموسم لن تنتهي بحلول العام 2004 الذي يبدأ غدا، اذ سيظل ذلك العام المنتهي واحدا من أسوأ الأعوام وأقساها في العقود الأخيرة، وخصوصا فيما يتعلق ببلادنا وأحوالها.

هنا قد تصلح شهادة السكرتير العام للأمم المتحدة كوفي عنان، الذي قال قبل أيام قلائل، وهو يودع العام الماضي، انه كان أقسى الأعوام على الأمم المتحدة، منذ إنشائها قبل ثمانية وخمسين عاما.

والمؤكد أن الرجل كان يشير الى المصاعب القاسية التي عانتها منظمته الدولية، جراء أزمة العراق، ونعني أزمة الولايات المتحدة الأميركية ومعها بريطانيا، على باقي دول العالم، وتحديهما معا الشرعية الدولية - التي تتمثل في الأمم المتحدة - وكسرهما معا القانون الدولي، وغزوهما واحتلالهما معا العراق، على غير إرادة العالم، الذي وقف عاجزا، في وجه القوة العظمى المنفردة وارادتها المنفلتة.

من الناحية الأخرى، ناحيتنا نحن، بدأ ذلك العام بأم الحواسم، عراقيا، وانتهى بأم المفاجآت ليبيا، وفيما بينهما وقعت أم المذابح على أيدي الجزارين الإسرائيليين ضد الشعب الفلسطيني... بينما العواصم العربية - إلا قليلا - تغط في نعاس التواري والتغابي، أو تختفي خلف أستار هواجس الارهاب، تلك التي قضت على آخر أمنيات التطور الديمقراطي الذي كان مأمولا!

فكيف كان ذلك، ثم ماذا بعد ذلك؟

منذ يناير/ كانون الثاني 2003، كانت عجلة الحرب الأميركية ضد العراق دارت سياسيا واعلاميا ونفسيا وعسكريا، ولم يكن هناك شك في ان الغزو وشيك، ولم يكن هناك في العالم من يستطيع ايقاف الاصرار والانفلات الأميركي حتى أقرب الحلفاء وأوثق الاصدقاء، ذلك ان القرار الأميركي بشن الحرب ضد العراق، اتخذ من قبل، ربما منذ ما بعد هجمات سبتمبر/ ايلول 2001 الدامية ضد نيويورك وواشنطن، بحثا عن ثأر وانتقام بل بحثا عن كبش فداء، يخفي التقصير الأميركي الداخلي.

وقد أثبتت الحوادث وتطوراتها المتسارعة ان واحدا فقط في العالم كله، هو الذي راهن بغفلة، على ان أميركا لن تغزو العراق، وان حشدها الاساطيل وتحريكها الأرمادا الهائلة الى المنطقة كان من باب «التهويل والتخويف»... كان صدام حسين وحده الذي تحدى وأعلن «أم الحواسم» بعد أم المعارك، لمواجهة الغازي المتجبر المقبل بعنفوان وصلف بحجة القضاء على أسلحة الدمار الشامل، واجتثاث بؤر الارهاب وازاحة النظام الديكتاتوري.

وفي 9 ابريل/ نيسان كان كل شيء انتهى ليبدأ فصل جديد في تاريخ المنطقة العربية تجاوز فيه الولايات المتحدة بقواتها العسكرية ونفوذها السياسي على الأرض، أكثر من دولة عربية، وتفرض فيه وقائع جديدة هي الأهم استراتيجيا منذ جلاء آخر جندي بريطاني من هذه المنطقة.

ومن لغو الكلام، التهوين من احتلال أميركا للعراق، واعلانها انها باقية هناك الى سنوات طويلة مقبلة، فان سحبت قواتها المقاتلة يوما ما، فسيبقى وجودها العسكري المباشر في عشر قواعد عسكرية على الأقل في العراق، وبالتالي سيبقى نفوذها السياسي والاقتصادي قائما في واحدة من أغنى الدول العربية، موقعا استراتيجيا في قلب آسيا الملتهب، ونفطا يفوق مخزونه ما لدى كل دول الخليج، وزراعة وماء وشعبا بالغ الحيوية عميق التراث شديد التمرد.

والحاصل ان العام 2003 - في ظل الاحتلال الأميركي للعراق - فجر في العالم العربي أكثر من أزمة، وفتح أكثر من ملف ملغوم، وعمق الخلاف العربي العربي، مثلما عمق الخلاف العربي الأميركي الغربي فاذا الانقسام هو السائد.

فلايزال بعض العرب، يرى ان الاحتلال جاء نعمة وهبة من السماء، لأنه خلص البلاد والعباد من مستبد طاغ، ومن ثم أصبح الاحتلال تحريرا.

في حين رأى البعض الآخر، ان الاحتلال نقمة وعدوان ولعنة من السماء، بصرف النظر عن المستبد الطاغي لكن الأسوأ ليس هذا الانقسام فقط، بل هو السقوط المدوي لنظرية الأمن القومي العربي، التي سادت سنوات عبر التصريحات الرسمية ومؤتمرات القمة، لكنها لم تجد تطبيقا عمليا في أي وقت وعند المحك، اللهم الا ما ندر.

ومن هنا انفجرت أزمة الهوية العربية في أكثر من قطر، من العراق شرقا الى الجزائر غربا، ومصر في المنتصف، وربما يكون حال العراق في ظل الاحتلال، هو الأدعى للقلق فيما يتعلق بالهوية، فها نحن نتابع محاولات فرض الصيغ الفيدرالية او الكونفدرالية، وفق الانتماءات العرقية والطائفية، بعد عقود من التوحد، فالقومية الكردية في مواجهة القومية العربية، والمذهب السني في مواجهة المذهب الشيعي، والمسيحيون في مواجهة المسلمين، و«إسرائيل» تسرع في إعادة زرع آلاف اليهود هناك بحجة العودة الى الديار القديمة، بينما اصداء تمزيق الهوية والعبث بالطائفية الدينية تسري عبر اقطار عربية أخرى، كانت تظن انها في مأمن، بينما ينتظرها بلاء عظيم، ان سارت الاحوال على هذا المنوال!

وحين كانت أم الحواسم تنكسر بحكم الهشاشة السياسية والعسكرية، أمام الغزو الانجلو أميركي للعراق، كانت أم المذابح تتصاعد في فلسطين، إذ شهد العام 2003 ذروة العدوان الاسرائيلي على الشعب الفلسطيني الذي بقي وحيدا في مقاومته فريدا في صلابته لكن التنسيق - التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والدولة الصهيونية - سمح لشارون وعصابته المتطرفة بممارسة كل أنواع القتل والابادة والتدمير الشامل للكيان الفلسطيني بشرا وحجرا وشجرا وبقي العالم كله مشغولا بالحرب ضد العراق، وبقي العرب جميعا مهمومين مرعوبين من تداعيات الحرب ضد العراق، وتوارت فلسطين خلف أم المذابح.

أما أم الهموم، فقد بقيت من نصيب العرب وحدهم وللمرة الأولى ربما في التاريخ العربي قديمه وحديثه، تصبح هموم الحكام أقسى وأسوأ من هموم المحكومين، فان كان الآخيرون اعتادوا الهموم من همّ البحث عن لقمة العيش الى همّ معاناة الظلم ومقاساة الاستبداد فان هموم الحكام صارت ثقيلة في العام 2004، فلم تعد القوة العسكرية الباطشة في أيدي التحالف الأميركي الاسرائيلي، هي وحدها المهددة لنظم الحكم وثوابت الاستمرار والاستقرار والانفراد بالسلطة والثروة، ولكن ضغوطا ممزوجة الاتجاه ثنائية الدفع، باتت تدق الابواب وتهز العروش والقصور طالبة التغيير.

في العام 2003 اصبح مطلب التغيير والتحديث والاصلاح هو الأعلى صوتا، والأكثر صخبا والأشد ضجيجا واختراقا للأسوار العالية التي يتحصن خلفها الحكام، أميركا من ناحيتها تضغط على النظم العربية لاجراء اصلاحات ديمقراطية تؤهل الدول العربية للتماشي مع أهدافها ومصالحها هي، والشعوب العربية انتفضت بعد صمت طويل ومعاناة شديدة، تضغط من ناحيتها تطالب بالتغيير والاصلاح الديمقراطي الوطني والقومي الهدف والاسلوب، بعد ان وصلت الروح الحلقوم، وطال الصبر انتظارا لتطور طبيعي لم يأت وأصبح العرب من شعوب العالم الأدنى في التمتع بالحريات.

يقول تقرير عن أوضاع الحريات في العالم نشرته المؤسسة الأميركية المعروفة «بيت الحرية» قبل أيام «ان الحريات ظلت محجوبة وغائبة في دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا وآسيا الوسطى، وهي الدول التي يشكل المسلمون فيها غالبية ساحقة» والأمر إذا يشمل جميع الدول العربية كما هو واضح لنا ولهم على السواء.

يضيف التقرير في موضع آخر، أن من بين 192 دولة في العالم، هناك 21 دولة فقط بنسبة 12,2 في المئة تتمتع بنظام ديمقراطي كامل، و20 دولة بدأت تتمتع خلال السنوات الأخيرة بنوع من الديمقراطية و88 دولة يسكنها 2,8 مليار نسمة، بنسبة 44 في المئة من سكان العالم تتمتع بقدر كبير من الحريات، و55 دولة يسكنها 1,3 مليار نسمة بنسبة 21 في المئة من سكان العالم، بدأت تتمتع بحريات جزئية محدودة، وذلك بسبب تقييد الحريات والحقوق السياسية والمدنية، وهيمنة الاحزاب الحاكمة وتفشي الفساد.

أم الهموم الحقيقية، أن نعرف أين يقع العرب في هذا التصنيف، وفي أي الفئات بالضبط يندرجون، أم انهم في الواقع خارج التصنيف، خارج الزمن!

بقيت أم المفاجآت وقد جاءت من الجماهيرية الشعبية الديمقراطية الليبية التي أبت ان يمضي عام الرمادة - القحط السياسي - من دون ان تكون لها عليه بصمة قوية، وصدمة مفاجئة وبارادتها الحرة.

ففي اليوم التالي للقبض على الرئيس العراقي السابق صدام حسين خلال الشهر الاخير من العام 2003 فاجأت ليبيا العالم بأنها بعد محادثات سرية مع أجهزة الولايات المتحدة وبريطانيا استمرت 9 أشهر قررت الكشف عما تمتلكه من أسلحة الدمار الشامل، وأمرت بفتح مفاعلاتها ومخازنها ومختبراتها ومعسكراتها للدولتين وللجان التفتيش الدولية تطويرا للسلوك الليبي في تحسين العلاقات مع الدول الغربية، وخصوصا بعد دفع عدة بلايين من الدولارات تعويضا لضحايا طائرة لوكيربي، التي اتهمت ليبيا بتفجيرها، أيام «العمل الثوري» ومساندة الثوار ومحاربة الكفار.

وفي حين استحسن كثيرون أم المفاجآت الليبية ربط البعض بينها وبين ما جرى للعراق ومصير حاكمه السابق الذي وقع أخيرا في الأسر، غير ان الجميع لم يجيبوا عن السؤال الاساسي، وهو: لماذا تطوعت ليبيا بكشف المستور بإرادتها؟ ولماذا الآن تحديدا؟ وما الثمن، وما الذي يعوض الشعب الليبي عن طول معاناته تحت الحصار وعن الانفاق المالي الهائل على مثل هذه المشروعات طوال اكثر من ربع قرن خصما من ثرواته النفطية ورفاهية عيشه؟

وتبقى النتيجة المؤكدة في كل ذلك، واستنتاجا من كل الامهات السابقة أم الحواسم وأم المذابح وأم الهموم وأم المفاجآت وهي، أولا: ان التحالف الغربي نجح في تنظيف المعسكر العربي من مشاغبيه، وتخليصه واحدا بعد الآخر من المارقين المتمردين، وحرمان الجميع من أي أظافر يقاومون بها، شراسة الهيمنة الاسرائيلية المنفردة وحدها بأكثر من مئتي سلاح نووي وهيدروجيني مدمر، وهي ثانيا: إننا نحن الشعوب العربية صرنا كالايتام على موائد اللئام، لا ندري من أين نتلقى الضربات القاتلة والسكاكين المغروسة في لحومنا... من الداخل أم من الخارج؟

فهل بعد كل ذلك كثير علينا ان نتململ مطالبين بالحرية، على الأقل لنصرخ من خلالها في وجوه الجميع، رفضا لكل الأباطيل!

خير الكلام:

يقول أبوالعلاء المعري:

في كل جيل أباطيل يُدان بها

فهل تفرّد يوما بالهدى جيل؟

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 481 - الثلثاء 30 ديسمبر 2003م الموافق 06 ذي القعدة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً