تعريف آينشتاين للعلم لا يعدو أن يكون أكثر من تصفية أو غربلة الأفكار، والتعريف الآخر للعلم هو تراكم للخبرات الفكرية والتجارب الإنسانية، وهذا ما يدعوني إلى تعريف العلم بوصفه تنظيما وترتيبا للأفكار النظرية (العقل)، ومنهجية الملاحظات الحسية (الواقع) وانعكاساتها على التوجهات العملية.
وأهمية دور التقنيين، استنباطا من المعارف المتزايدة، تكمن في فرز المعلومات الكمية والنوعية وصوغها في معادلات رياضية للتوثيق والإحصاء.
وقد يعلل ذلك ذكر القرآن في آياته الحكيمة، كما في «وكُلَّ شَيءٍ أحصيناهُ كتابا» (النبأ 29)... فالأرقام وتطورها إلى معادلات رياضية وعلوم إحصائية أسهمت في توثيق المعلومات والمعارف.
المنهجية العلمية وترتيب المعلومات والأرقام وتراكم الخبرات وأساليب الحجة والافتراض تؤدي، بشكل أو بآخر، إلى استمرار إنتاج الأفكار وولادة معارف جديدة وواقع متغير وعقل متنور أو متجدد.
تطبيق العلم وطرائقه يسهم في تغيير مفردات الواقع وتغيير سلوك الإنسان، ويصوغ مع الزمن ثقافة العلم في المجتمع. ونعني بثقافة العلم إدراك عموم الناس لدور العلم وأهميته في المجتمع وعلاقته بالواقع العملي ودوره في التغيير والتجديد.
ويعكس النقاش المحتدم بين العلماء وأفكارهم المختلفة حركة الواقع المتغيرة وعملية العلم المتصاعدة والمعرفة المتزايدة والمجتمع الناضج.
ويشير هذا إلى دور العلم في تطوير ميكانيكية التفكير للاستمرار في إنتاج الأفكار وتغيرات الواقع وتعمق العملية العقلية، ما يقود إلى فرز طرائق تفكير جديدة.
فالفكر يصاحب متغيرات الواقع، يؤثر فيها ويتأثر بها، ويصوغها في الوقت عينه.
الأفكار والواقع في تفاعل متداخل متبادل ومتعاكس. فالأفكار تحرك الواقع، والواقع في تغيره يقدم مشكلات وتحديات إلى العقل للتجاوب معه في إنتاج الأفكار، أي إحداث التفاعل المطلوب بين العقل والواقع اللذين يشكلان منابع الأفكار وديمومة إنتاجها. ومنابع الأفكار هي التفاعل بين الواقع والعقل، فالإنسان يتحرك في الواقع ويتفاعل معه مغيرا نفسه والأمور التي حوله فيكون قادرا على صناعة التاريخ ورسم المستقبل.
والأسئلة الجوهرية في واقعنا هي:
كيف نفهم الواقع في عالمنا العربي والإسلامي ونحن نمتلك عقلا ثابتا ونفكر ببعد واحد؟
كيف ننتج أفكارا ونحن نستخدم عقلية النقل والقياس (قياس الحاضر من فهم الماضي) وتحقيق ما كتب في الماضي لواقع حاضر متشابه العوامل مختلف الظروف؟
كيف نبدع في أفعالنا ونبتكر في أعمالنا ونحن نقلد ونحاكي ونلتف حول الأشياء ونستهلك انتاجات الآخرين؟
كيف نفهم الواقع ونحن نقدس المطلق بالكمال ونهمل النسبي بالتمام؟
كيف نصنع التاريخ لنقل حالنا إلى أفضل إذا كانت حركة التاريخ واقفة، والمستقبل ميت بسبب غياب الحاضر وتقديس الماضي؟
كيف الخروج من هذه الأزمة؟
ربما البداية، الدوران حول الشك للوصول إلى اليقين واستخدام المنهجية العصرية في تطبيق الأدوات الجديدة والملائمة لدراسة الواقع وتوفير المعلومات الكمية والمقادير النوعية للقيام بالإحصاء والأرقام في توثيق المعارف المكتسبة والمنبثقة. وهذه ستمكننا من الابتداء بالحقائق لاستنتاج النتائج، والاستمرار في تغيير الواقع - من خلال الأفكار - للوجود في الحاضر، واستخدام العقل للوصول إلى المستقبل
العدد 342 - الأربعاء 13 أغسطس 2003م الموافق 14 جمادى الآخرة 1424هـ