العدد 2688 - الخميس 14 يناير 2010م الموافق 28 محرم 1431هـ

لماذا استشهد الإمام الحسين (3-3)

أبو الاعلى المودودي - مفكر إسلامي 

14 يناير 2010

كان المبدأ الخامس للدستور الاسلامي أن بيت المال (خزانة الدولة) مال الله وأمانة المسلمين لا يدخله شيء من طريق آخر غير طريق الحق، ولا ينفق منه في شيء إلا في الحق. وحق الخليفة في هذا المال من وجهة نظر القرآن لا يزيد عن حق الموالي في مال اليتيم. من كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف. والخليفة مسئول عن تقديم كشف حساب لكل درهم يدخل في بيت المال أو يخرج منه، وللمسلمين كل الحق في أن يطلبوا منه هذا الحساب.

وقد عمل الخلفاء الراشدون وفق هذا المبدأ بأمانة تامة، فكان كل ما يدخل خزانتهم إنما يدخل وفق القانون الإسلامي، وكل ما ينفق إنما ينفق في الطرق المشروعة، فمن كان منهم غنيا خدم الدولة مجانا بلا راتب ولو درهم واحد، بل لم يأسف على أن ينفق من ماله الخاص من أجل الشعب. ومن كان يستطيع خدمة الأمة طوال الوقت كان يأخذ راتبا قليلا جدا لسد احتياجاته كالذي يتقاضاه أوسط الناس بالعدل والإنصاف.

ثم كان في مقدور كل فرد أن يطلب في أي وقت حساب الداخل في خزانة الدولة والمتصرف منها، وكانوا هم مستعدين في أي وقت لتقديمه إلى كل من يطلبه. وكان كل فرد من أفراد الشعب يستطيع أن يسأل الخليفة في مجمع عام من أين جئت بهذا القماش اليمني مع أن نصيبك فيه لم يكن يكفي لصنع ثوب طويل لك؟!

فلما تبدلت الخلافة ملكا لم تصبح الخزانة مال الله والمسلمين بل مال الأمير. ودخلتها الثروات من كل طريق مشروع وغير مشروع وأنفق منها أيضا بلا خوف في كل طريق شرعي وغير شرعي. ولم يعد في مقدور أحد أن يسأل عن حسابها. فكانت الدولة كلها وجبة شهية يمد إليها كل العاملين في الحكومة أيديهم كبيرا وصغيرا كلٌّ حسب ما يتسنى له. وغاب عن الأذهان حتى مجرد تصور أن السلطة ليست صك الإباحة الذي عن طريقه يحل لهم هذا النهب، وأن الأموال العامة ليست لبن أمهم فيرضعوه بلا حساب أو مساءلة من أحد.

6- سيادة القانون وحكومته:

وكان المبدأ السادس لهذا الدستور سيادة القانون (يعني قانون الله ورسوله) وحكمه في الدولة، وأن لا أحد فوق القانون أو يحق له أن يعمل حرا خارج حدود القانون.

وأن يكون القانون واحدا للكل من أصغر الناس إلى رئيس الدولة وأن يطبق على الكل بالتساوي وبلا محاباة. وأن لا يعامل أحد معاملة مميزة عن غيره في القضاء، كما أن المحاكم ينبغي أن تكون حرة من كل ضغط من أجل توفير العدالة والإنصاف. ولقد عمل الخلفاء الراشدون بهذا المبدأ فقدموا أفضل نموذج له فكانوا مقيدين بقيود القانون الإلهي... ومع أن سلطتهم تفوق سلطة الملوك، إلا أن قرابتهم أو صداقتهم لأحد لم تخرج عن حدود القانون فتنفعه بشيء، كما لم يضر غضبهم أحدا فيظلمه خلافا للقانون. وكانوا إذا اعتدى عليهم أحد طرقوا أبواب المحاكم مثلهم مثل عامة الناس، فإن كانت لأحدٍ شكوى ضدهم رفع عليهم دعواه وجرهم إلى المحاكم. كما أنهم وضعوا نوابهم وقادتهم والمسئولين في دولتهم في قبضة القانون.

فلم يكن ثمة مجال لأحد أن يفكر مجرد تفكير في التأثير على مجرى العدالة ورجال القضاء. ولم تبلغ رتبة أحد به أن يخالف القانون أو يخرج من حدوده، ويفلت من المؤاخذة. لكن ما أن تحولت الخلافة إلى ملك حتى تفسخت هذه القاعدة أيضا وتناثرت أجزاؤها. فلم يرتفع فوق القانون الملك وأمراؤه وحاشيته وحكامه فحسب بل أيضا جواري وعبيد بلاطه السفلة. فاستبيحت رقاب الناس وأموالهم وعزتهم وكرامتهم، وأصبح للعدالة معياران أحدهما للبؤساء والضعفاء والآخر للأقوياء، وصار الويل للقضاة الذين يحكمون بالعدل والإنصاف حتى فضل الفقهاء الأتقياء الجلد والسجن على أن يجلسوا في كرسي القضاء كي لا يصبحوا آلة للظلم والعسف فيستحقوا عذاب الله.

-7 المساواة التامة في الحقوق والمراتب:

كانت المساواة التامة بين المسلمين في الحقوق والمراتب المبدأ السابع من مبادئ الدستور. وقد طبق هذا المبدأ في الدولة الإسلامية الأولى خير تطبيق فلم يكن ثمة بين المسلمين فرق باعتبار الجنس أو الوطن أو اللغة أو غير ذلك. ولم تكن القبيلة والعائلة والحسب والنسب سببا لتفضيل أحد على الآخر. فكانت حقوق جميع المؤمنين بالله ورسوله واحدة متساوية، وإن كان من فضل لأحد على آخر فباعتبار سيرته وأخلاقه وكفاءته وصلاحيته وخدماته. فلما قام النظام الملكي مقام الخلافة راحت شياطين العصبية ترفع رؤوسها في كل ركن من أركان الدولة. فصارت رتبة الأسرة الحاكمة ومنزلة حماتها من العائلات والبيوتات أعلى من كل شيء، ونالت قبائلهم حقوقا فوق حقوق الآخرين، وازدهرت العصبيات بين العرب والعجم بل ظهر الصراع بين القبائل العربية نفسها. وصفحات التاريخ شاهدة على ما ألحقه هذا الأمر بالأمة الإسلامية.


الإمام الحسين ودوره الإيماني

كانت هذه هي التغيرات التي ظهرت بانقلاب الخلافة الإسلامية ملكا عضوضا ولا يستطيع أحد أن ينكر أن ولاية عهد يزيد كانت بداية هذه التغيرات. كما لا يستطيع أن ينكر أن جميع المفاسد التي ذكرناها آنفا إنما وجدت في النظام الملكي بعد مدة وجيزة من هذه البداية.

ومع أن هذه المفاسد لم تكن قد ظهرت بتمامها وكمالها حين اتخذت هذه الخطوة (ولاية عهد يزيد) إلا أن كل صاحب بصيرة كان بوسعه أن يعرف أن هذه المفاسد كلها نتائج حتمية لهذه الخطوة، وأنها ستقضي على جميع الإصلاحات التي أوجدها الإسلام وجاء بها في نظام السياسة والدولة. لهذا لم يستطع الإمام الحسين على ذلك صبرا، وقرر أن يتحمل أسوأ النتائج التي قد تنتج من جرّاء الثورة على حكومة راسخة مستتبة ويخاطر بمحاولة وقف هذا التبديل.

أما مصير هذه المحاولة فالكل يعرفه، لكن الإمام بنزوله إلى هذا الخطر العظيم، وتحمل نتائج هذا السلوك الرجولي المؤمن أثبت أن الخصائص الأساسية للدولة الإسلامية هي رأس مال الأمة الإسلامية، الذي أن ضحى المؤمن برقبته وأسرته وأهله وعياله في سبيل الحفاظ عليه لا يكون قد عقد صفقة خاسرة. وأن المؤمن إذا ضحى بكل ما يملك في سبيل وقف التغيرات التي ذكرناها آنفا، وهي الآفة العظمى للدين والملة، فلا ينبغي له أن يأسف على ذلك قط. وليستحقر هذا من شاء، وليسمِه عملا سياسيا، لكنه كان في عين الحسين بن علي عملا دينيا خالصا، ولهذا اعتبر التضحية بالروح من أجله شهادة، فاسترخص روحه وضحى بها في سبيله.

العدد 2688 - الخميس 14 يناير 2010م الموافق 28 محرم 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً