العدد 2346 - الجمعة 06 فبراير 2009م الموافق 10 صفر 1430هـ

انتخابات العراق بين «دولة القانون» و«قانون الدولة»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هل يمكن القول إن نتائج انتخابات مجالس المحافظات في ثلاثة أرباع العراق تؤشر إلى بدء نمو وعي سياسي متقدم على علاقات الانقسام الأهلي (الطائفي، المذهبي، المناطقي) في بلاد الرافدين؟

النتائج حتى الآن تعطي لوائح رئيس الحكومة (حزب الدعوة) نوري المالكي المرتبة الأولى في بغداد و8 محافظات في الجنوب، بينما احتلت اللوائح المتنافسة المراتب الثانية والثالثة والرابعة... ما يعني أن القوى السياسية لم تحصل على غالبية نسبية تسمح لها بتشكيل إدارات محلية من دون اضطرار للائتلاف.

المعيار النسبي جيد للحكم على مزاج الجمهور الانتخابي ولكنه ليس كافيا لتأكيد مقولة انتقال الوعي السياسي في العراق من موقع الطائفة والمذهب والمنطقة إلى طور اكتشاف الدولة. فالعلاقات الأهلية التي انقسمت وانفجرت في بلاد الرافدين بعد الغزو الأميركي في العام 2003 انكشفت على معطيات واقعية وتاريخية أشارت إلى وجود تخلف مخيف في رؤية الآخر. وأظهرت جرائم القتل والسحل والنسف وتقطيع الرؤوس وتمزيق الأشلاء كمية هائلة من الأحقاد الدفينة والغضب المتراكم جيلا بعد جيل.

حالات الرعب والخوف والتخويف والاقتلاع والتشريد والطرد والفرز العنصري والأقوامي والمذهبي والطائفي والمناطقي أشارت إلى أن الاجتماع البشري في العراق وصل إلى مرحلة من الانقطاع والتقطع بتشجيع من الاحتلال. فالغزو الأميركي آنذاك قرر إعادة هندسة الهيكل السياسي لبلاد الرافدين من خلال تقويض الدولة وتمزيق المجتمع وبعثرته على جغرافيا بشرية تنعزل في دوائرها المناطقية الطوائف والمذاهب والأقوام بذريعة الدفاع الأمني عن النفس وبحثا عن تجانس أهلي يحصن الذات من الاندماج مع الآخر المختلف.

الاحتلال الأميركي آنذاك اعتبر أن الدولة العراقية الحديثة التي تأسست نظريا في العام 1920 لا تعكس أبنيتها السياسية (هيكلها العام) الواقع البشري الذي تتألف منه بلاد الرافدين. وانطلاقا من فرضية أن الدولة لابد أن تمثل تكوينها الديموغرافي أخذ الاحتلال بإعادة تأسيس السلطة اعتمادا على سياسة الفرز السكاني ودفع الفرق والملل والنحل إلى الاقتتال الأهلي والانكفاء إلى مناطق متجانسة في طوائفها ومذاهبها وقبائلها وعشائرها وأقوامها.

إعادة انتشار البشر شكلت نقطة أساسية في التفكير الاستراتيجي لسياسة الاحتلال الأميركي في عهد «تيار المحافظين الجدد» في واشنطن. وإعادة توزيع الاجتماع البشري لا يمكن له أن ينجح ميدانيا إلا بعد تقويض الدولة وتحطيم البنى التحتية تمهيدا لفتح قنوات الاقتتال الأهلي وإكراه الناس على الانكفاء إلى الهويات الصغيرة تعويضا عن الهوية الوطنية الجامعة والمشتركة.

سياسة إعادة انتشار الناس وتفكيك الروابط الأهلية نجحت في مرحلتها التأسيسية حين أدى التصادم العنفي إلى اغتيال المئات من كادرات الدولة وقتل الآلاف على الهوية والضغط على الخائفين للنزوح إلى الداخل أو الهجرة إلى الخارج. هناك الملايين من العراقيين دفعوا ضريبة التهجير والاقتلاع خوفا من الإبادة العرقية أو التطهير المذهبي والطائفي ما أدى إلى إعادة تشكيل خريطة بلاد الرافدين السكانية.

الآن وبعد نجاح مرحلة التأسيس بدأ العراق يعيش حالات مترددة تشير إلى نوع من الحنين للعودة إلى فكرة الدولة وما تمثله من خشبة خلاص تخفف من حدة تسلط زعماء الطوائف والمذاهب وميليشيات المناطق والمجموعات السياسية التي مارست السلب والنهب والسرقة وتقطيع الأوصال تحت مسميات مختلفة الألوان والأشكال.

الدولة وقانون العودة

العودة إلى الدولة خطوة متقدمة نحو الاستقرار ولكن كيف ستكون العودة؟ وما هو شكل الدولة المراد التوصل إليها؟

الدستور العراقي الذي أشرف الاحتلال على صوغه يعطي تعريفا للدولة يعاكس إمكان العودة إلى الوحدة ويكرس سياسة الانشطار المناطقي (المحافظات) ضمن رؤية فيدرالية تعطي صلاحيات للأطراف على حساب المركز.

الواقع العراقي بعد 6 سنوت على الاحتلال والتشطير والتفكيك والتطهير والتشريد والطرد تحول ميدانيا إلى كيانات بشرية موزعة على المناطق والطوائف والمذاهب والأقوام والقبائل. والانتخابات التي جرت في نهاية الشهر الماضي وأعلن عن نتائجها في الأسبوع الأول من الشهر الجاري تمت على قاعدتي الدستور والانقسام الأهلي ما يعني أن الهيكل العام سيعكس صورة تمثيلية تتجانس إلى حدٍ ما مع خريطة البلاد السكانية. والنتائج التي أعلن عنها في بغداد ومحافظات الجنوب ونينوى والأنبار وغيرها تتناسب مع الحجم النسبي للقوى السياسية المتنافسة على تمثيل اللون الواحد (الطائفة والمذهب والعشيرة والمنطقة) حتى لو أظهرت بعض الأرقام حاجة نفسية تدل على حنين للدولة.

الكلام الذي أطلقه المالكي خلال حملته الانتخابية عن «دولة القانون» اعتمد لفظيا على قانون «دولة» يضمن للمحافظات سلطات محلية تعطيها صلاحيات استثنائية تعطيلية تعرقل إمكانات العودة إلى وحدة مركزية تمنع بلاد الرافدين من الانقسام الفيدرالي. فالمشكلة ليست في «دولة القانون» وإنما في «قانون الدولة». والقانون (النظام التشريعي) بحاجة إلى تعديل حتى يهذب تلك الشوائب الدستورية التي أشرف الاحتلال على صوغها في ضوء ايديولوجية «تيار المحافظين الجدد» في عهد إدارة جورج بوش.

تعديل الدستور العراقي يبقى الأساس لأنه يشكل في النهاية قاعدة دولة القانون ويحدد الإطار المشترك لضمان استقرار المجتمع وترسيم الهوية الوطنية الجامعة. ومهمة تعديل الدستور المصنوع اميركيا تعتبر خطوة مركزية في إعادة إنتاج دولة متجانسة ومنسجمة تعيد العلاقات الأهلية من طور الانقسام إلى إطار الاندماج.

النتائج الأولية التي أظهرتها انتخابات مجالس المحافظات جيدة لأنها أعطت مؤشرات إيجابية تدل على وجود ردة فعل ضد تسلط زعماء الطوائف والمذاهب وميليشيات المناطق والمافيات والمرتزقة وعصابات النهب والسلب والسرقة... ولكن النتائج العامة ليست كافية للحكم النهائي بأن العراق أخذ يسترد حيويته وعافيته وهويته السياسية وبدأ يكتشف «الدولة» التي تشكل المخرج الإنساني للانتقال من وعي طائفي ومذهبي ومناطقي وقبلي إلى طور أعلى من العلاقات الأهلية.

النتائج الأولية لا تزال حتى الآن محكومة بهواجس الهويات الضيقة على رغم فوز لوائح المالكي بالمرتبة الأولى. فالتوزيع النسبي للأصوات أعطى فكرة «دولة القانون» الموقع الأول في التراتب الهرمي، ولكن المالكي لم يأخذ الغالبية النسبية التي تمهد الطريق للانتقال إلى خطوة تعديل قانون الدولة. وبهذا المعنى لا بد من الانتظار للتعرف على تفصيلات أخرى منها مثلا صلاحيات مجالس المحافظات ومدى تضاربها الاقليمي مع جغرافيا الفديراليات.

هذا الأمر يحتاج إلى قراءة أخرى قد تمتد إلى نهاية السنة الجارية لمعرفة النتائج التي ستفرزها الانتخابات النيابية (السلطة التشريعية). ومن الآن يمكن القول إن العراق دخل في منعطف كبير/ خطير لأن التنافس بين اللوائح السياسية بدأ يخضع لتوازنات الهويات الضيقة في المناطق. الشيعي ينافس الشيعي على زعامة الأحياء والدوائر والمحافظات. واللائحة الشيعية تفوز نسبيا على لائحة شيعية منافسة. كذلك السني ينافس السني. والعشائر السنية تتنافس مع الأحزاب السنية، والأمر نفسه ينسحب على المحافظات «الشيعية» وغيرها من محافظات «سنية».

العراق الآن «عراقات» موزع على مناطق ومحافظات كردية وعربية سنية وشيعية. والخوف أن يتحول التقسيم القسري للعلاقات الأهلية إلى نوع من الاستفتاء للحصول على شرعية قانونية لدولة متخيلة في الذاكرة الشعبية وممنوعة من التشكل الموضوعي بسبب القانون (الدستور).

الاحتلال نجح في إعادة تشكيل خريطة بلاد الرافدين السكانية مستخدما سياسة التقويض فهل ينجح العراق في إعادة إنتاج دولة تعيد هوية البلاد إلى الخريطة السياسية؟ البداية جيدة ولكنها ليست كافية للتفاؤل.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2346 - الجمعة 06 فبراير 2009م الموافق 10 صفر 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً