العدد 512 - الجمعة 30 يناير 2004م الموافق 07 ذي الحجة 1424هـ

لحظة للتفكير

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

من المحتمل أن يكون رئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون قد راقب مشهد الاستقبال الذي جرى في بيروت للأسرى من مزرعته في النقب. مشهد الفرح والبكاء في لحظة الانكسار العربي له أكثر من دلالة وهو يستدعي لحظة من التفكير.

لاشك أن شارون عادت به الذاكرة إلى مشهد معاكس حين كان في تلك الأيام وزيرا للدفاع وقرر بالاتفاق مع رئيس الوزراء آنذاك مناحيم بيغن اجتياح لبنان بالتواطؤ مع الثنائي الجمهوري الحاكم في البيت الأبيض (ريغان - هيغ).

قرار الاجتياح جرى في ظل انكسار عربي ايضا. فآنذاك في يونيو/ حزيران 1982 كانت مصر (السادات) قررت الخروج على الاجماع العربي واتجهت نحو حل مشكلاتها مع «إسرائيل» بمعزل عن جامعة الدول العربية وبأسلوب منفرد تخلى فيه السادات عن تحالفه الاستراتيجي مع سورية.

في تلك الأيام كان على بيغن - شارون تنفيذ المرحلة الأخيرة من اتفاقات كامب ديفيد التي وقعت في عهد الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر. ولكن قبل تلك المرحلة حصلت تطورات خطيرة منها اغتيال الرئيس المصري في اكتوبر/ تشرين الاول 1981 وفشل كارتر في التجديد بعد نشوب أزمة رهائن السفارة الأميركية في طهران.

في تلك الاجواء المشحونة والغاضبة قرر شارون اجتياح لبنان بمباركة من الجمهوري رونالد ريغان تعويضا عن خيارات الانسحاب من سيناء التي يبدو أنه اجبر عليها بضغط من الإدارة الديمقراطية.

وهكذا كان. فما إن انسحبت «إسرائيل» من سيناء في ابريل/ نيسان 1982 حتى قررت التعويض عن انسحابها بالهجوم على لبنان بعد شهرين من ترتيب الجبهة العسكرية - السياسية مع مصر.

لاشك أن شارون تذكر تلك اللحظات حين كان يراقب مشهد استقبال الأسرى في بيروت. ويحتمل أنه تذكر نفسه حين كان يتبختر كالطاووس في قرى لبنان ومدنه ويصدر الأوامر بقصف بيروت ليل نهار، بحرا وجوا وبرا من دون تمييز بين احياء العاصمة والمواقع العسكرية. ولاشك أنه تذكر مسئوليته المباشرة عن اصدار أوامر القتل واجتياح المخيمات الفلسطينية وارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا بعد خروج قوات منظمة التحرير من بيروت وتعهده أمام العالم بأنه لن يقتحم العاصمة في حال وافق ياسر عرفات على الانسحاب منها.

كذب شارون، وهذا ليس جديدا عليه وعلى دولته. ولكن وزير الدفاع آنذاك أصبح رئيسا للوزراء الآن وهو منذ وصوله إلى الحكم يهدد بتكرار تلك الأيام حين اندفع بقواته ودباباته وطائراته يقصف ويدمر ويرتكب المجازر. آنذاك في العام 1982 لم يكن حزب الله موجودا. وكان السيدحسن نصر الله في مقتبل العمر.

الآن وبعد مرور 22 عاما على تلك الأيام انقلب العالم. فالحزب الجمهوري في البيت الأبيض يهدد ويتوعد وشارون ينتهز فرصته للانقضاض على عرفات في رام الله وحزب الله في لبنان. فالمشهد لاشك يثير العجب من كثرة تعارضاته. فمن ناحية الوضع العربي يمر ايضا بحالات من الانكسار بعد احتلال العراق. فالاحتلال يذكر بتلك الايام حين قرر السادات الخروج على الاجماع العربي والانفراد بتسوية مع «إسرائيل». ومن ناحية اخرى يقبع شارون في مزرعته في النقب يراقب مشهد استقبال الأسرى في بيروت.

فبعد 22 عاما عادت مصر إلى جامعة الدول العربية وطردت «إسرائيل» من لبنان وعرفات المحاصر في رام الله يجدد العهد يوميا على مواصلة الكفاح السياسي لقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس.

المشهد لاشك يطل على مجموعة تعارضات الا أن الاساس فيها أن منطق القوة لا يغير المعادلات. القوة ترسم خرائط سياسية إلى حين، ولكنها لا تستطيع تغيير الحقائق وتحويل الباطل الى حق. فالقوة تنفع في اللحظات الأولى الا أن الافراط في استخدامها يولد نقيضها. فالاجتياح في لبنان اطاح بمقاومة ولكن التاريخ انتج مقاومة أخرى من نوع جديد تكيفت مع المستجدات والوقائع. واجتياح أميركا للعراق أطاح بنظام مستبد لكنه لم يزعزع ثقة الشعب العراقي بنفسه وحقه في الحرية والسيادة.

مشهد الاستقبال في بيروت هو لحظة للتفكير وإعادة النظر في منطق القوة الذي ترى قيادة «إسرائيل» انه يحميها من منطق التاريخ. فالقوة تعدل بعض الموازين ولكنها لا تستطيع أن تصنع الحقائق. والقوة بحاجة الى سياسة، والسياسة بحاجة إلى مشروع بديل لا يفرض من فوق بل ينتج من الوقائع والمعادلات التي يقررها منطق الحق.

مشهد الاستقبال هو رسالة، وفي الآن لحظة للتفكير في الزمن الذي يغير ولا يتغير. فالكثير من الاشياء تغيرت الا أن الحقائق لا تتغير. وما حصل لشارون في لبنان يتكرر لبوش في العراق وأفغانستان. فالقوة لا تعني شيئا امام التاريخ وحقائق الجغرافيا ووقائع الأيام.

إنه فعلا لحظة للتفكير. ومشهد بيروت رسالة من زمن جديد أخذ ينهض من تحت الركام وفي لحظة الانكسار العربي

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 512 - الجمعة 30 يناير 2004م الموافق 07 ذي الحجة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً