العدد 539 - الخميس 26 فبراير 2004م الموافق 05 محرم 1425هـ

المسلمون و«علم المقارنة»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

اشتهر التاريخ الإسلامي بالتعدد، واساس التعدد هو اعتراف الإسلام بالآخر حتى لو اختلفت عقيدته. فالإسلام كان مظلة كبرى وتحتها نهضت الكثير من الاجتهادات بعضها انحرف وبعضها حافظ على الفرائض. فالتعدد اساس التوحيد. وبسبب اعتراف الإسلام بالتعدد أسهم المناخ العام في اشاعة اجواء نمو قوى قالت بمقالات خالفت الاجماع ولكنها لم تتعرض للاضطهاد والملاحقة الا حين كانت الفرقة تشهر سلاحها وتعلن الحرب على الدولة.

هذا التعدد الذي قام على عقيدة تؤكد الاختلاف وتعتبر ان مبدأ التسامح هو الأصل، انتج سلسلة انواع من الملل والنحل والفرق يصعب حصرها أو تسميتها كلها نظرا لقدم بعضها وتلاشي ذكر بعضها الآخر في كتب التاريخ.

الى ذلك لم يشهد التاريخ الإسلامي حركات تكفير الا في حالات نادرة. فالتكفير في الإسلام مسألة مكروهة وكان العلماء والائمة والفقهاء والقضاة يتجنبون استخدام المصطلح لانهم كانوا يجدون في تهمة التكفير فكرة غير مستحبة. وبسبب تجنب استخدام مفردة التكفير لجأ الأئمة والعلماء والفقهاء والقضاة إلى مفردات أخرى تستخدم في المعنى نفسه للدلالة على المصطلح من دون اضطرار إلى استخدامه بعينه. وكان المجتهدون في الدفاع عن العقيدة يفضلون شرح افكار الفرقة أو الملة أو النحلة من دون تدخل منهم الا فيما ندر. واحيانا كان المجتهدون يشكرون يتركون للمؤمنين تقرير موقفهم من افكار تلك الفرقة أو الملة أو النحلة حتى لا يتهموا بالتأويل أو بتوجيه الرأي نحو جهة معينة.

لاشك في أن المجتهدين صنفوا الفرق والملل والنحل ضمن لوائح وحركات عامة تخضع مدارسها وفصائلها وخصوصياتها إلى قائمة مشتركة تتقاطع بها آراء هذا الفصيل مع ذاك... إلا أنهم بذلوا جهودهم حتى لا يسقطوا في فخ التكفير.

ولذلك لجأ المجتهدون في مجال الذوذ عن العقيدة إلى ابتكار كلمات تدل على الانحراف من دون ان تسقط في تهمة التكفير فاشتهرت الكثير من الكلمات الدالة التي تشير إلى الفكرة وتشهر بها احيانا من دون ان تطلق عليها صفة الكفر الا اذا أعلن صاحب الفكرة كفره. ومن اشهر تلك الكلمات المستحدثة كانت «البدعة». مفردة البدعة اشتهرت في كتب الفرق والملل والنحل وجاءت لتسعد الفراغ ما بين فرق الإسلاميين ومقالاتهم وما بين احتمال ان تكون افكار تلك الفرق خارجة على الإسلام. وعلى هذا تحولت «البدعة» إلى تهمة ولكنها لم تصل في يوم من الأيام إلى المعنى الذي تدل عليه مفردة الكفر.

الى جانب استخدام «البدعة» لجأ المجتهدون إلى المفاضلة بين الفرق والقياس بينهم للحكم على ابتعاد هذه عن العقيدة واقتراب تلك. وأدى هذا النوع من التفكير المنهجي إلى نهوض مدارس متقدمة في علم المقارنة بين الأديان وبالتالي بين المذاهب والفرق والنحل والملل.

الى المقارنة جاءت المسميات. فالمجتهدون في هذا الحقل نجحوا إلى حد كبير في نأي انفسهم عن الترويج لافكار الفرقة من خلال حمل افكارها على المحمول نفسه. والمحمول هنا هو صاحب الفرقة أو البدعة. فحتى لا يقول المجتهد ان هذه النحلة مسلمة أو غير مسلمة (والله اعلم) مال الأئمة والفقهاء والعلماء والقضاة إلى براءة الذمة من خلال عرض مقالات الفرقة على ذمة صاحبها. وبهذا الاسلوب نجح المجتهدون في تبرئة ذمتهم وتبرئة العقيدة من شوائب «البدعة».

وبسبب حرص المجتهدين على تنزيه العقيدة عرف التاريخ الإسلامي الكثير من الاسماء والمسميات بعضها اشتهر واستمر وبعضها تلاشى واضمحل.

تصنيف الفرق في الإسلام يعتبر مدرسة قائمة بذاتها وهو علم مستقل نجح في تأسيس آليات وضعت المعايير والمقاييس وعلى اساسها تم ترتيب الملل والنحل وتوزيعها على اصول وفروع.

وانطلاقا من ذاك التصنيف اشتقت اسماء الفرق ونسبت إلى اصحابها حتى تبقى عقيدة التوحيد بعيدة عن ما ابتدعته تلك الملل والنحل وادخلته على الإسلام ومدارسه واجتهاداته. وحتى لا يحصل الاختلاط كان لابد من نشوء ادوات تحليل ومناهج تفكيك واحيانا تقويض في مراحل مختلفة من التاريخ الإسلامي. فمثلا الاشعري لجأ إلى التحليل وأكثر من العرض والشرح، بينما الغزالي مال إلى التفكيك، واشتهر ابن تيمية بمنهج التقويض.

وفي المجموع نرى ان العلماء من حيث يدرون أو لا يدرون أسهموا في تأسيس علم جديد في الإسلام هو علم المقارنة ازدهر وانتشر في ارجاء الديار الإسلامية وخصوصا في الاندلس.

في الاندلس تطور هذا العلم كثيرا واخذ شهرته مع ابن حزم الظاهري (جاء بعد الاشعري وقبل الغزالي) الذي كان له باعه في هذا الحقل وكتب الكثير في مجال المقارنة بين الأديان والمذاهب والملل والنحل والفرق ولعبت كتاباته التي ترجم بعضها إلى اللاتينية ولغات أخرى دورها في اطلاق سلسلة مدارس ومناهج أوروبية تأسيسا على ما فعله علماء المسلمين في هذا السياق.

الا أن علم المقارنة في حقوله الثلاثة (التحليل، والتفكيك، والتقويض) اختلفت وظائفه بين العالم الإسلامي والعالم الأوروبي. ففي فترة المسلمين استخدم العلم للتمييز لا للتفرقة وبطرق دفاعية استهدفت حماية الهوية وتحصينها من هجمات (بدع) حاولت ضرب أسس التوحيد في العقيدة. اما في الفترة الأوروبية فان بعض اتجاهات علم المقارنة تحول إلى سلاح للتشهير ولتبرير الحروب والسيطرة. وبعض تلك الحروب لا نزال نشهد الكثير من وجوهها في عالمنا المعاصر. فالهجوم على الإسلام اليوم يتم احيانا انطلاقا من «المقارنات» وإعادة تصنيف وترتيب الديانات والمذاهب و فق انقسامات سياسية تميل إلى تصنيف المسلمين في خانة التطرف وقائمة الإرهاب.

وفي ضوء هذا المشهد البانورامي (الحربي) يمكن ملاحظة الفارق الكبير بين علم تأسس قديما للدفاع وبين علم اعيد تأسيسه حديثا للهجوم. ففي زمن المسلمين كان المجتهدون يتجنبون تهمة التكفير ويحمّلون صاحب البدعة وزر مقالاته. اما في زمن الاستكبار العالمي فان قادة بعض الدول الكبرى يتسلحون بالفروقات لتأسيس حروب ضد أمة يبلغ تعدادها خمس سكان الكرة الأرضية. انها فرقة (بدعة جديدة) تنطلق من الاختلافات ليس للمقارنة بل لالغاء الاختلاف. وهذا ضد التوحيد

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 539 - الخميس 26 فبراير 2004م الموافق 05 محرم 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً