العدد 551 - الثلثاء 09 مارس 2004م الموافق 17 محرم 1425هـ

ما ثمن كعكة «بدل سفر النواب»؟

العصيدة التي عجنت بلعاب الثعابين!

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أود أن أذكّر مجلس النواب ببعضٍ يسيرٍ مما يحفل به تاريخنا الاسلامي المجيد، الذي نتعلم منه ونحتكم إليه لنصحّح أوضاعنا المعوجة، وعلى رأسها التلاعب بالمال العام.

أحدهم أراد أن يقدم رشوة للإمام علي (كرم الله وجهه) فقدّم له «عصيدة»، إذ ظن الأحمق ان الحاكم على الامبراطورية الممتدة بين الأطلسي وجبال الهندكوش لا يعرف الطريق إلى الأكل الناعم حتى يهديه «عصيدة»! هل تعلمون كيف كان رد فعل الإمام علي؟ لقد تجاوز علي (ع) حدود البلاغة حين اختار ذلك الوصف التمثيلي الساخر بقوله في تلك العصيدة: «كأنها معجونة بريق حية»...هكذا تكون الرشوة في نظر الحاكم النزيه.

وحين حمل حاكم البصرة المال من بيت مال المسلمين وهرب به إلى المدينة، هدّده علي بالقتل بالسيف إذا ظفر به، وعيّره بقوله كيف تبيح لنفسك احتياز «أموال الأرملة واليتيم».

الامتحان الثاني

ربما يكون موضوع «بدل السفر» من أكبر التحديات التي يمتحن بها النواب في ضمائرهم وأمام ناخبيهم، بعد عدة أشهر من الامتحان الأول، حين حوّلت إلى حساباتهم المصرفية المكافأة الأولى التي حظوا بها قربة إلى الله تعالى! هل تذكرون مبلغ العشرة آلاف دينار؟ حتى هم لم يعرفوا السبب أو المناسبة حينذاك، فأخذوا يضربون أخماسا في أسداس، وخرجت علينا تنظيرات وتخريجات فقهية من نوع ما يسمى بـ «الحيل الشرعية»، ليتسلموا المبلغ هنيئا مريئا ويناموا في مخادعهم قريري العيون.

ومن المفاهيم التي كان الدين الاسلامي رائدا بطرحها في تاريخ البشرية هو مفهوم المال العام، حين أسمى مصالح الناس المشتركة بـ «مال المسلمين»، وهو ما تسبب في حدوث أكثر الخلافات بشأن المال في عصرٍ مبكرٍ جدا من تاريخ الاسلام. وهي مسلّمة يدركها من قرأ هذا التاريخ بتمعنٍ وإنصاف.

وفي مأثوراتنا العربية كلمة عجيبة غريبة، تقول: «تظهر معادن الرجال عند بزوغ المطامع». وهي كلمة تضع اليد على احد الجروح الغائرة في تاريخ البشرية. فما من مشكلة أو معضلة أو إشكال إلا وتدخل فيه المطامع الدنيوية، التي خلقت صراعا أزليا بين دعاة الإصلاح الحقيقيين وأصحاب القيم والمبادئ، وبين من يتبنى «لغة» المصالح ويغلّب «مبدأ» الدفع بالدولار.

مهر النواب!

وهناك مبدأ يفترض أن يسود ويحكم التعاطي مع المال العام، مادام الجميع يتكلم بلغة الاصلاح. ولا فرق بين التلاعب بأموال الهيئة العامة للتقاعد أو سرقة مؤسسة عامة، وبين من «يشرّع» بنفسه لنفسه صرف أموال الشعب على بدل سفره، من دون رقيب أو حسيب. فنحن مع احترامنا للنواب إلا انهم يجب أن يفهموا انهم يتلقون على عملهم النيابي أجرا ثابتا، يرفع عنهم الحاجة ويغنيهم. وفي حال السفر في مهمات رسمية من المعقول ان يفرض لهم ما يقوم بحاجتهم ويكفيهم دون تقتير أو إسراف. وإذا استعرنا من مفردات الزواج نقول: «مهر المثل»، فلو ان شركة أرسلت أحدا يمثلها فكم ستخصص له من بدل سفر؟ بل لو ان بعض هؤلاء النواب يملك شركة وقرر إرسال أحد موظفيه إلى الخارج في مهمة، فكم سيخصّص له من بدل سفر؟ وعلى هذا يجب أن يتصرفوا لكيلا ينحرفوا عن المنهج القويم. فينبغي تقدير المبلغ حسب الحاجة والبلد والمدة والكلفة العامة، لا أن يتم الصرف من فلوس هذا الشعب الفقير على طريقة الشيكات المفتوحة. ولكي لا تتحول النيابة عن الشعب إلى تكسب وجمع غنائم وربح وفير!

ومن الواجب علينا أن نذكّر السادة النواب الأفاضل أنهم «يمثّلون» شعبا يعيش 30 ألف شخص منه على راتب لا يتجاوز 200 ينار في الشهر، فكيف يبيحون لأنفسهم التمتع بصرف مبلغ 200 أو 300 دينار من أمواله على كل يوم يسافرون فيه إلى الخارج؟هل نوابنا الأكارم بحاجة إلى أن نذكرهم بصرخة البطل الإسلامي أبي ذر الغفاري حين صاح أمام قصر الحمراء في الشام: « إن كان هذا من مالك فهو الإسراف، وإن كان من أموال المسلمين فهو الخيانة».

وليتذكر النواب الكرام، إذا مرّروا هذه «الأحدوثة» لأنفسهم، فستبقى ذكرى سيئة في تاريخ كلٍ منهم لن ينساها الناس، أصحاب الاموال الحقيقيين، وعليهم أن يقنعوا ناخبيهم بـ «صحة» حيلهم الشرعية، وليجهدوا في استخراج فتاوى تبيح لهم ما هم مقدمون عليه من احتياز أموال الأرملة واليتيم.

وأخيرا أقول للنواب، نصيحة لله وللمسلمين وللوطن العزيز، اتركوها فإنها معجونة بريق الحيات، عصيدة كثر الذباب عليها فأنتنت، وكفى هذا الشعب ما تم التلاعب بأمواله لتأتي هذه «الهبات» و«العطايا» التي تمنحونها هذه المرة لأنفسكم لتزيد ظهر البعير المستضعف إثقالا، وتزيد ميزانيته إفلاسا. فهل أنتم منتهون؟

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 551 - الثلثاء 09 مارس 2004م الموافق 17 محرم 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً