العدد 553 - الخميس 11 مارس 2004م الموافق 19 محرم 1425هـ

محكمة الجنايات الدولية بين حلم العدالة وعدالة الحلم

فيما تثار بشأنها توجسات وتطلعات...

تتأرجح محكمة الجنايات الدولية بين أن تكون حلما تسعى الدول إلى تحقيق العدالة من خلاله، أو أن تكون مصدرا لتعزيز مبدأ العدالة كحلم يصعب تحقيقه، وتباينت الآراء بشأن ما إذا كانت تطلعا إلى منابع عدل جفت وجففت في بعض الدول، أو توجسا أثار الجدل وخصوصا فيما يتعلق بنظامها الأساسي. هكذا كان وضع المحكمة التي أخذت نصيبا وافرا من المناقشات الدائرة في مؤتمر صنعاء الإقليمي عن الديمقراطية وحقوق الإنسان ودور محكمة الجنايات الدولية الذي عقد في العاصمة اليمنية (صنعاء) في يناير/ كانون الثاني الماضي. إذ أكد الرئيس اليمني علي عبدالله صالح عند افتتاحه المؤتمر أهمية دور المحكمة في حماية حقوق الإنسان والحرص المشترك على أن يكون الناس جميعا سواسية في حقوقهم من دون تمييز أو اضطهاد.

وفي هذا الصدد يمكن القول إن حلم الوصول إلى العدالة خطا خطوات كبيرة إلى الأمام بعدما أقرت دول العالم إنشاء المحكمة بعد محاولات مهدت لها عدة اجتماعات تحضيرية وجهود منظمات غير حكومية وإنشاء محاكم يوغسلافيا ورواندا إذ انعقد مؤتمر الأمم المتحدة الدبلوماسي للمفوضين المعني بإنشاء المحكمة في الفترة من 15-6-1998 إلى 17-7- 1998 التي كان مؤملا أن تحمي حقوق الإنسان وتعزز القيم الديمقراطية التي يشملها حكم القانون وشاركت في أعمال المؤتمر وفود تمثل 160 دولة و31 منظمة دولية و136 منظمة غير حكومية بصفة أعضاء مراقبين.

ويشار إلى أنه في الأول من يوليو/ تموز 2002 أصبح قانون روما للمحكمة مرعي الإجراء ومنذ ذلك الحين انتخبت جمعية الدول المشاركة 18 قاضيا للمحكمة والمدعي العام وأمين السجل وبدأت المؤسسة القضائية الجديدة تمارس شئونها، بينما وفود من العالم العربي اشتركت بنشاط في مفاوضات قانون روما وملاحقه بما فيه بنوع خاص عناصر الجرائم وقواعد الإجراء والأدلة، فقط بلدان اثنان هما فريقان في القانون وتحديدا جيبوتي والأردن من أصل 92 دولة صادقت عليه. وعلى الصعيد العربي هناك دول مازالت تدرس المعاهدة وأخرى وقعتها من دون أن تصادق عليها أي أنها لم تنضم إليها بصورة رسمية بعد ووقعت 13 دولة عربية النظام الأساسي للمحكمة وصادقت عليها دولتان هما الأردن في ابريل/ نيسان 2002 وجيبوتي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2002. ويرى تقرير أعدته مديرية الدراسات والمعلومات في مجلس النواب الأردني عرض خلال المؤتمر أنه ليتسنى للمحكمة أن تواجه انتهاكات القانون الإنساني العالمي في جميع أنحاء العالم فمن الضروري أن تلتحق دول أخرى بقانون روما بحيث تسهم كل مصادقة جديدة في تثبيت المحكمة كأداة للقانون والعدالة العالميين. وأوضح أن توسيع نطاق عدد الدول المنضمة التي تعترف بالسلطان القضائي للمحكمة لا يسهم فقط في تقوية أواصر شرعية المؤسسة الجديدة إنما يوفر لها الوسائل والصفة لتعمل بفاعلية عند الاقتضاء أيضا. وفي حين أن الأردن حاليا يترأس جمعية الدول المشاركة فإن المنطقة العربية ذات تمثيل أقل بين جميع الدول المشاركة ما يدل على أن عقائدها القانونية وفقهها ليست ممثلة في هيئة المحكمة وان الدول العربية ليست ممثلة كما يرام في جمعية الدول المشاركة. أما حكومة اليمن فالتزمت بالمصادقة على قانون روما للمحكمة ويؤمل أن دولا أخرى في المنطقة تنضم إليها قريبا. وتأتي على رأس الدول المعترضة لإنشاء المحكمة الولايات المتحدة الأميركية و«إسرائيل».

تأييد ليس خفيا

ويرى التقرير أن الدول العربية لا تستطيع أن تخفي تأييدها لقيام المحكمة وان كانت لديها ملاحظات بشأن أنظمتها فانسجامها مع مواقفها يشكل المحكمة وهذا ما بدا واضحا للعالم عندما تضمن البيان الختامي الصادر عن مؤتمر القمة العربي غير العادي الذي انعقد في القاهرة في أكتوبر/تشرين الأول 2002 تأكيد القادة العرب أن الدول العربية ستلاحق وفقا للقانون الدولي من تسببوا في الممارسات الوحشية وتطالب مجلس الأمن بتشكيل محكمة جنائية دولية مخصصة لمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين.

ونوه الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى في كلمته خلال المؤتمر بأن ما ترتكبه «إسرائيل» من جرائم يومية ضد الفلسطينيين وبناء المستوطنات في أراضيهم المحتلة وبناء الحائط الاستعماري الاستيطاني يشكل انتهاكا خطرا للقوانين والأعراف الدولية التي يدخل انتهاكها في اختصاص القضاء الدولي باعتبارها جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وجميعها تدخل في اختصاص المحكمة باعتبارها آلية قضائية لردع الجرائم الدولية الخطيرة، وتطبيقا للعدالة والقانون الدولي من دون تمييز أو انتقائية وبحياد واستقلالية. وأضاف «إيمانا منا بدور المحكمة ساهمت جامعة الدول العربية بفاعلية في جهود إنشائها وشاركت في عدة مؤتمرات واجتماعات وندوات لتهيئة المناخ لانضمام الدول العربية إلى نظامها الأساسي الذي وقعته معظمها، وصادقت عليه حتى الآن اثنتان منها وتواصل البقية الحوار والنقاش داخل أجهزتها المعنية للتغلب على الصعوبات التي تقف في سبيل المصادقة والانضمام والمتمثلة في مواءمة دساتيرها وقوانينها مع نظامها الأساسي. ولمساعدة الدول العربية في هذا المجال تقوم لجنة من الخبراء في الجامعة العربية بإعداد مشروع قانون نموذجي عربي للجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة وقواعد التعاون معها».

وفي رسالة الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان إلى المؤتمر أكد أهمية دعم مبادئ العدالة والمسائلة القانونية لترسيخ مبدأ سيادة القانون في المجتمعات الديمقراطية وعلى المستوى الدولي فقد مثل إنشاء المحكمة - كما قال - تقدما تاريخيا في جهود دعم العدالة ومنع الحصانة. وأضاف «ومع ذلك فإن علينا تعجيل وتيرة المصادقة على اتفاق روما في بعض الأقاليم وأحث المسئولين على تحقيق هذا الهدف. وتمس هذه المبادئ أنحاء العالم كافة ولكنها أساسية بشكل خاص في إقليمكم انتم إذ إن القصور في الحريات وتمكين المرأة والتعليم والمعرفة يعوق تطور القدرات البناءة للمجتمعات بشكل يؤدي إلى اليأس والإحباط. وبالتالي يجب تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون لتحقيق التقدم الاجتماعي والتطور في مواجهة التحديات التنموية».

ومن جانبه ذكر الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي عبدالواحد بلقزيز أن الدول الأعضاء في المنظمة تهتم بموضوع المحكمة وتعتبر إنشاءها سيفتح بابا واسعا للعدالة الدولية، وينعش الآمال في أن تكون لها قوة رادعة زاجرة تعين على أن تصبح المساءلة السياسية والمحاسبة أمرا ممكنا على النطاق الدولي بعد أن كانت قاصرة على النطاق الداخلي. وحين يتم ذلك فستشهد البشرية عهدا جديدا تتحسن فيه فرص استتباب الأمن الداخلي والدولي ويسود فيه السلم الاجتماعي وتحترم فيه حقوق الإنسان.

غطاء لفراغ حقوقي

نائب وزير الخارجية الإيطالية السيناتور مانتيكا اعتبر المحكمة مكملة للمحاكم الخاصة بكل دولة وتغطي الفراغ القائم في النظام الدولي في مجال حقوق الإنسان، والمحكمة التي تدعمها بقوة كل من إيطاليا والاتحاد الأوروبي تمدنا بإجابة مهمة لإحدى المشكلات المهمة وهي الحصانة التي تمتع بها بعض الأشخاص في حالات عدة والمسئولين عن أكثر من تصرف غير قانوني ضد شعوب بأكملها. أما وزير العدل في الجمهورية الجزائرية حافظ الأختام فرآها تشكل آلية فعالة للتعبير عن تضامن وتعاون المجموعة الدولية في محاربة ومعاقبة الجرائم الأكثر خطورة التي تحول دون تطور واستقرار المجتمعات، وتسهم في الارتقاء بحقوق الإنسان وقيم الديمقراطية.

ومن جهته شجع وزير العدل الجيبوتي على توقيع نظام المحكمة والمصادقة عليه لتوسعة قاعدتها والمشاركة في الإصلاح وتفادي إشكال الإفلات من العقاب لمن ارتكب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب لا تستطيع بعض الدول محاكمتها. فيما ذكرت ممثلة وزارة العدل اليونانية أن المحكمة تتيح فرصا جديدة لمعاقبة مرتكبي الجرائم بما يعزز الأمن والسلام الدوليين إذ تتدخل حين تتقاعس المحاكم الوطنية على تولي النظر بنفسها في بعض الجرائم. وأكدت ضرورة التعاون مع المحكمة التي يؤمل أن تفهم الأنظمة القضائية المحلية وتحترم خصوصيتها. ونوهت بأن الانتقادات الموجهة ضدها تعزى لسوء فهم المبادئ التي أرسيت عليها وركزت على مبدأ المصالحة وحق الضحايا والشروط التي ينبغي أن تتوافر لتقوم المحكمة بعملها على أكمل وجه، والابتعاد عن مخاوف أي تلاعب أو تسييس مؤكدة أن الباب مفتوح للاجتهادات التي يجب مراعاتها بما يخدم مصلحة كل الأطراف. وعن دول الشرق الأوسط قالت إن مخاوف المصادقة تتعلق بدور مجلس الأمن الذي يمكن بموجبه تأخير التحريات لفترة معينة والإقصاءات والاتفاقات المبرمة ومع أميركا شكلت مصدر قلق لخطر التسييس الذي يلغي عنها الطابع الموضوعي.

توجسات ومخاوف

ومن التوجسات المثارة حول المحكمة نوه النائب البحريني أحمد حسين بأن موضوع المحكمة يعتبر أمرا جديدا، بينما التشريعات الدولية صيغت بناء على خصوصية كل دولة، متسائلا عن موقف الدول التي تريد المصادقة على النظام ولكنها لا تستطيع مواءمة تشريعاتها معه. أما التوجس الآخر فهو انه في حال عدم رغبة دولة ما في محاكمة احد مواطنيها المتهمين بارتكاب جرائم نص عليها النظام، فما هي الجهة التي تقرر حق أي طرف في المحاكمة؟ كما تساءل «كيف سيتم التعامل مع الدول التي تمتنع أو تتأخر في التصديق على قرار مؤتمر روما بشأن المحكمة؟». وأضاف أن هناك توجسا بشأن السيادة الوطنية وتفسير بعض التعريفات كالابادة الجماعية، مطالبا بوضع تعريفات دقيقة.

أما وكيل وزارة العدل الفلسطيني فاروق أبوالرب فقال: لابد أن يعاد النظر في النظام الأساسي للمحكمة بمشاركة المجتمعات الإنسانية وفقهاء القانون ورجالاته. أما أبرز ملاحظاته فتتمثل في صلاحيات المدعي العام، إذ طالب بالتوازن بين الادعاء العام والدفاع عن المتهمين. ووفقا له لا يجوز أن يتمتع المدعي العام للمحكمة بصلاحيات واسعة من شأنها أن تهدر حقوق الإنسان. وعن التوقيف قال لا يجوز أن يتم إلا بقرار قضائي، وما على المدعي العام إلا أن يهتم بالملف التحقيقي للمتهم للمحكمة التي تقرر توقيفه أو براءته أو إخلاء سبيله بالكفالة، وذلك لم يشمله النظام. وبالتالي يصبح المدعي العام من وجهة النظر القانونية حاكما عسكريا متصرفا بعباد الله. وباعتباره مندوبا عن فلسطين أكد أنه مع إنشاء المحكمة على قاعدة من العدل والمواساة كون الشعب الفلسطيني لديه قائمة من مرتكبي المجازر الإنسانية بحقه، ولدى المحامين والمختصين ملفات مليئة بالأدلة الجزائية التي ستحكم المحكمة بشأنها تجاه مجرمي الحرب المعتدين عليه. 139 بلدا وقعوا قانون روما و92 صدقوه بحيث أصبحوا أعضاء في جمعية الدول المشاركة في عدة مناطق من العالم وأعدت الحكومات المراحل النهائية لتدخل هذا القانون في قوانينها الجزائية الوطنية. ويعد مبدأ «التتمة» أساس قانون روما بحيث المسئولية الأولية لمحاكمة الجرائم طبقا للقانون الدولي تكمن في السلطان القضائي الجنائي الوطني. وبالتالي يكون للمحكمة دور في أنظمة القضاء الجنائي الوطني أو عندما تصبح في وضع لا يمكنها من معالجة هذه الجرائم وعليه تكون إما غير قادرة أو غير راغبة في التحقيق بها ومقاضاتها. فهل توقعه وتصادقه دول أخرى وخصوصا العربية منها لتحقق حلم العدالة أم أنها مستأنسة بأن تظل فيها العدالة حلما طالما نأت بإرادتها إلى أن تكون لعبة في يد أكبر القوى السياسية في عالم اليوم عوضا من أن تبدد مخاوفها منها؟ وخصوصا أنها في حال فعلت ذلك ستمثل في جمعية الدول المشاركة التي لها الحق في انتخاب القضاة والمدعي العام والمسجل، ومراجعة موازنة المحكمة والمصادقة عليها وتوفير الدعم لها، وإنشاء قواعد عملها الداخلي ووضع قواعد دليلها وسيكون لكل دولة صوت واحد في تلك القرارات

العدد 553 - الخميس 11 مارس 2004م الموافق 19 محرم 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً