العدد 560 - الخميس 18 مارس 2004م الموافق 26 محرم 1425هـ

«الحداثيون» العرب ومسألة الديمقراطية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

من مشكلات «الحداثيين» في المنطقة العربية أنهم لا يكترثون للتاريخ. يعتبرون التاريخ مجرد حوادث مضى زمانها بينما «العولمة» برأيهم تتطلب النظر إلى الأمام لا إلى الوراء.

هذه مشكلة من المشكلات وهي أفضت إلى تأسيس جيل مهجن لا هو بالحديث ولا بالقديم. فهذا الجيل يتحدث عن أوروبا ولا يعرف تاريخها ولا يدرك الأسباب التي جعلت من أوروبا/ أوروبا.

المهجنون ينظرون دائما إلى نصف الحقيقة ولا يتعلمون من التاريخ سوى العناوين. فهم لا يعرفون أن أوروبا مرّت في دورات متتالية من العنف والتطور حتى وصلت إلى الحال التي هي عليه الآن. فالآن ليست منفصلة عن السابق بل هي نتاجها وإعادة بناء عليها. فأوروبا الآن هي نتاج تراكم ملايين اللحظات الزمنية التي أثمرت التطور والعقلنة وأنتجت سلسلة أنظمة دستورية اتفق عليها لتحصن تطور التجربة وتمنع المتلاعبين من اختراقها وبعثرتها.

حتى الديمقراطية في أوروبا لها تاريخ، فهي لم تسقط دفعة واحدة بل تطورت. والديمقراطية في أوروبا في شكلها الحالي لم تكن كذلك قبل مئة عام. فهي دخلت منذ أكثر من قرن في تجارب وتعديلات حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن. فالديمقراطية كانت سابقا نظام الخاصة ولم تكن «حكم الشعب للشعب» وهي حتى الآن لم تتوصل إلى مطابقة ذاك المفهوم الساذج والشائع عن الديمقراطية أنها «حكم الشعب للشعب».

تعبير «حكم الشعب» هو ترجمة حرفية عن أصل الكلمة اليوناني إلا أن المفهوم يختلف عن التعريف. فالمفهوم مسألة بشرية - تاريخية وأخذ سلسلة محطات زمنية حتى وصلت الديمقراطية إلى هذا الطور وهي لاتزال تتطور. فالأساس هو التطور وليس الديمقراطية، والأخيرة ليست سببا بل نتيجة.

بدأت الديمقراطية في أوروبا في دائرة صغيرة حين قامت قبائل الفايكنغ باجتياح القارة في القرن العاشر الميلادي من الشمال إلى الجنوب. وكانت تلك القبائل تتبع نظام الانتخاب لا التوريث. فالحاكم ينتخب بين أبناء القبيلة. وبعد فترة دامت نحو القرنين انتقل هذا التقليد إلى قبائل أخرى فاعتمدته قبائل الساكسون كأساس لاختيار مجلس الحكم وثم التصويت على رئيس المجلس.

من هذه الحلقة الضيقة أخذت الديمقراطية كتجربة عملية، لا كنظرية مترجمة عن اليونانية، تتراكم وتتسع وتتطور. فالديمقراطية في أوروبا ليست تعريفا لكلمة تُدَّرس في المعاهد والجامعات وإنما هي مسألة مكتسبة أعيد النظر فيها وتطورت وفق حاجات الجماعات وضمن إطار محكوم بالظروف الميدانية. فالديمقراطية في أوروبا حاجة اجتماعية - سياسية وليست تحفة للزينة. ولأنها كذلك لعب الاجتماع السياسي دوره في اختبار التجربة ميدانيا وتطويرها زمنيا محطة بعد آخرى.

بدأت المحطة الأولى في تحديد الكتلة التي يحق لها التصويت. فمن يحق له التصويت ومن لا يحق له؟ سؤال لماذا حدد موازين القوى وفرز الاجتماع السياسي إلى وظائف اقتصادية؟ وآنذاك كانت طبقة ملاك الأراضي (الاقطاعيون) تعتبر المصدر الوحيد للرزق والمعاش (الإنتاج) ولذلك اقتصرت الديمقراطية عليها. فمن يملك يحق له أن يصوت ويختار السلطة السياسية. وعلى هذا تأسست الديمقراطية على قاعدة اجتماعية ضيقة واستثنيت منها كل الطبقات والفئات والكتل التي كانت في مقاييس ذاك العصر قوى غير منتجة لأنها ببساطة لا تملك.

بدأت المحطة الثانية في تطور مفهوم الإنتاج. فسؤال من هو المنتج أعاد النظر بقاعدة الديمقراطية فأدخل على التصويت مجموعات مهنية وحرفية أو تتعاطى التجارة والبيع والشراء. وهكذا توسع المجلس المنتخب (التمثيلي) فانضمت إليه فئات منتجة تملك أدوات ومعدات غير الأراضي.

وفي المحطة الثالثة تطور أيضا مفهوم الإنتاج. وفي ضوء تعديل نظرية من هو المنتج عدلت بعض المقاييس في التعريف الأصلي للديمقراطية. وحين اعتبر المفهوم الجديد للإنتاج العامل والفلاح والمزارع من المنتجين في دورة الاقتصاد السنوية توسعت دائرة التمثيل الديمقراطي لتشمل كل العاملين من الرجال فقط وبات نصف المجتمع يحق له التصويت (الاقتراع) ليختار المجلس النيابي. آنذاك كانت المرأة تعتبر في المفهوم المتداول قوة غير منتجة ولذلك حرمتها القوانين والدساتير من حق التصويت.

المحطة الثالثة كانت مهمة من حيث دفع الديمقراطية خطوات سياسية إلى الأمام. ففي تلك الفترة شهدت أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر سلسلة ثورات وانتفاضات اجتماعية - سياسية وظهرت إلى سطح العلاقات عشرات التنظيمات النقابية والاتحادية التي بلورت مفهوم الإنتاج وطورته سياسيا الأمر الذي فرض على القوة المالكة التسليم بوقائع جديدة لم تكن تعترف بها. فالتطور هنا لم يقتصر على تطوير المفهوم بل تعديل موازين القوى من حيث نسبة مساهمة المنتجين في الاقتصاد. فالمسألة لم تكن نظرية (حكم الشعب) بل كانت عملية فمن يعمل يأكل ومن ينتج يقترع. فالإنتاج هو دورة اقتصاد والدولة التي تشرف على التنظيم تحتاج إلى مال، والمال يأتي من المنتجين. وبناء على هذه الدائرة (الدورة الاقتصادية) كان على المنتج أن يدفع الضريبة للدولة حتى تعترف الدولة به كمواطن وتعطيه الحق الدستوري في التصويت وبالتالي المشاركة السياسية في انتخاب المجلس التمثيلي. فحكم الشعب ليس مجرد مفردة تطلق في الخطابات الحماسية وليست شعارا عدميا جاء من فراغ بل نتاج تراكم من التجارب تأسس على سلسلة من القيم الاجتماعية تبدأ في إعادة تعريف مسألة الإنتاج ودور المنتجين في تطوير دورة الاقتصاد ودعم الدولة التي من مهماتها الإشراف على توازن المصالح بين الجماعات المنتجة.

الضريبة إذا كانت نقطة تحول في تطوير المفهوم السياسي للعملية الديمقراطية. فهي شكلت خطوة مهمة في كسر احتكار المواطنة لفئة من الناس. فالضريبة هي المال الفائض من دورة الاقتصاد يعطى للدولة بخيار حر من المنتجين/ المواطنين. ومن لا يدفع الضريبة لا يحق له التصويت لأنه يتهرب من مسئولية المواطن تجاه الحق العام (الدولة). ولأن المرأة لم تكن منتجة وبالتالي لا تدفع ضريبة للدولة مقابل عملها وحقها الدستوري في الاقتراع حرمت من التصويت.

استمر الحال على حاله حتى دخلت أوروبا القرن العشرين وتورطت في حروب كارثية كانت كافية لتعديل مفهوم الإنتاج وبالتالي تطوير تعريف الديمقراطية وأخيرا السماح للمرأة بالاقتراع.

من هذه المحطة الرابعة دخلت المرأة الحقل السياسي من الباب الإنتاجي. وكان ذلك بعد الحرب العالمية الأولى. ففي تلك الفترة ذهب الرجال إلى الجبهات للحرب دفاعا عن الدولة (وحدة مصالح المنتجين) وكادت المصانع والمعامل والمزارع تتوقف عن الحركة وبالتالي يتوقف الاقتصاد ويموت الناس جوعا ومرضا.

وحتى لا يحصل الأمر الأسوأ ظهرت شعارات «حق المرأة في العمل» و«حقها في الخروج من المنزل» و«دور المرأة الموازي للرجل» و... و... وهكذا تدربت المرأة على العمل (الإنتاج) وحلّت مكان الرجل الغائب في جبهات القتال. وحين انتهت الحرب لم يعد بالإمكان إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. فالمرأة دخلت سوق العمل، والإنتاج، وتحولت إلى مواطن يدفع ضريبة وبالتالي كفل لها الدستور حق التصويت.

لم تدخل المرأة حقل السياسة من الباب النسوي بل من ميدان العمل والإنتاج الذي كان سابقا حكرا على الرجال. كذلك لم تعط الحقوق المتساوية دفعة واحدة بل بتدرج. فاشترط المشرعون آنذاك أن تكون بالغة وفوق سن الثلاثين لتعطى حق الاقتراع. فالمساواة في أوروبا ليست مجرد شعارات تطلق من المنابر والحناجر بل هي مفردة مؤسسة على العمل والإنتاج وأخيرا الضريبة.

لذلك كان على المرأة أن تنتظر إلى نهاية الحرب العالمية الثانية ليتكرر الأمر نفسه. فخفض سن اقتراع المرأة ثم خفض في الخمسينات، ثم خفض لتأخذ دورها الكامل على قدر المساواة مع الرجل في ستينات القرن الماضي. أي منذ أقل من 50 سنة. وحتى الآن لاتزال بعض المقاطعات في أوروبا وتحديدا بعض كانتونات سويسرا (إدارات تتمتع بالحكم الذاتي) تميز بين المرأة والرجل في حقل السياسة وحق الاقتراع. ولا مجال للنقاش بأن سويسرا تعتبر من الدول الأكثر تطورا في مجالات الصناعة والتقنيات والإلكترونيات.

القصد من استعراض هذا الموجز عن تاريخ الديمقراطية في أوروبا ومساواة المرأة والرجل إعطاء فكرة عن الجهود والمعاناة والتضحيات التي بُذلت لتطوير التعريف اليوناني الساذج للديمقراطية (حكم الشعب) إلى مفهوم تاريخي يرتكز على الإنتاج وتطور القوى المنتجة ومساهمتها في دورة الاقتصاد وصولا إلى المواطن (المواطنية) التي تأسست أصلا على موقع الإنتاج ونسبة الضريبة لخزينة الدولة. فالقصد هو توجيه رسالة تنبيه لبعض «الحداثيين» العرب الذين لا يكترثون للتاريخ ولا يعرفون مجرى الحوادث لا في العالم الإسلامي ولا في العالم الأوروبي.

«الحداثيون» العرب ينتظرون الأساطيل الأميركية لتطبيق الديمقراطية ظنا منهم أن الكلمة مجرد تعريف كلاسيكي ساذج لترجمة المفردة عن اليونانية... بينما هي في الواقع مسألة أخرى في التجربة الإنسانية

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 560 - الخميس 18 مارس 2004م الموافق 26 محرم 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً