العدد 2745 - الجمعة 12 مارس 2010م الموافق 26 ربيع الاول 1431هـ

ذكريات مع الدكتور محمد سيد طنطاوي الشعلة المستمرة

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

يقول الشاعر العربي:

لقد مات ناس وما ماتت مكارمهم

وعاش قوم وهم بين الناس أموات

إن هذا الشعر العربي الممتلئ بالحكمة ينطبق خير انطباق على فضيلة الإمام الأكبر محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر الراحل.

وإن بصمات طنطاوي في الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية في مصر وفي تاريخ الإسلام ستظل شعلة مستمرة لسنوات كثيرة. لقد كان شجاعا لا يهاب أن يقول صراحة ما يعتقده وأن يتصرف في مواقف كثيرة بما تمليه عليه عقيدته الإسلامية السمحاء، وبما يمليه عليه ضميره وحسه الوطني.

لهذا كله أثار الدكتور طنطاوي ضده الكثير من علماء الأزهر من أصحاب الفكر التقليدي المحافظين الذين يؤثرون السلامة ولا يرغبون في اتخاذ المواقف التي تمليها ظروف العصر ومقتضيات الزمن ومستجدات الدهور. لقد أخذ الدكتور طنطاوي مواقف لمصلحة المرأة المصرية المسلمة، وأكد حقوقها التي جاء بها الإسلام الحنيف واستبعد ما ران على الفكر الإسلامي من جمود في هذا الصدد. ونافح فضيلته عن مبدأ التسامح والاعتدال في الإسلام، ولذلك أصلح كثيرا ما طرأ على علاقات المسلمين والأقباط من توترات ونشأت بينه وبين قداسة البابا شنودة علاقة مودة واحترام. هاجم الدكتور طنطاوي مفاهيم التشدد والتعصب والعدوان والإرهاب والانتحار الذي يقوم به بعض المسلمين، والذي أدى لنكبات عدة للمسلمين ولتشويه صورة الإسلام السمح العقلاني المعتدل.

لقد استقبل قيادات مسيحية ويهودية وغيرها في دار الأزهر الشريف وتحاور معهم، أليس مبدأ الحوار هو مبدأ إسلامي أصيل «وجادلهم بالتي هي أحسن»، إن الدعوة الإسلامية تقوم على المنطق والعقل والحوار والكلمة الطيبة «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة»، هل يكون الحوار مع أصحاب نفس الرأي أم مع أصحاب الرأي المخالف؟ وهل تكون الدعوة إلا للغير الذي لا يتفق معك في الموقف. ألم يحاور الله سبحانه وتعالى عباده وملائكته بل والشيطان نفسه؟ ألم يحاور النبي كفار مكة ومشاركيها وأصحاب الديانات الأخرى في آية المباهلة المشهورة؟ لقد كان الشيخ طنطاوي عالما مجتهدا ومثل كل العلماء والمجتهدين يتعرضون للنقد بل للأذى من خصومهم، وخاصة من أصحاب الجمود أو من الطامحين. ولكن كان صلبا في الحق متمسكا برأيه ومؤكدا رغبته في تغييره إذا أقنعه أحد بحجج سليمة وصحيحة، وهذا هو سلوك المسلم الحق في إسلامه والمؤمن صادق الإيمان.

طبعا فهو كرجل صعيدي له بعض الهفوات والفلتات التي وقع فيها بحكم التربية الصعيدية، ولكن من منا بلا هفوات، وحقا قال السيد المسيح من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.

لقد أفتى الشيخ طنطاوي معتمدا على سماحة الإسلام ويسره وإدراك مغزى وجود مسلمين في دول غير إسلامية فدعاهم لاحترام تقاليد وقوانين أوطانهم والتمسك بمبادئ دينهم الحنيف والبعد عن الغلواء والتطرف والتشدد كما في فتواه بأن النقاب عادة وليس عبادة، وفي احترام القانون في فرنسا، أليس الإسلام صاحب مبدأ أن الضرورات تبيح المحظورات؟ أليس القرآن بقائل «فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا أثم عليه»؟ لقد كانت فتاوى طنطاوي تتماشى مع روح الشريعة وروح الإسلام وروح العصر. ولكن دعاة الجمود والتشدد لم يرق لهم ذلك فهاجموه ودافع عن نفسه بمنطق وعلم وحجة قوية وصلابة في التمسك بموقفه وهكذا العلماء الأفذاذ الذين نتيجة معاركهم ومواقفهم تركوا بصماتهم في تاريخ الأزهر وفي تاريخ الإسلام وهكذا كان الدكتور محمد سيد طنطاوي.

لقد كان للدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر الراحل عالما جليلا شجاعا لا يخاف ولا يهاب أحدا في قوله ما يعتقد أنه الحق. كان صاحب رؤية وصاحب رأي قد يختلف معه البعض وقد يتفق ولكن إذا كان المرء منصفا فلابد أن يحترمه ويقدره يجله لثلاثة أسباب:

الأول: إنه عالم متميز في علمه متبحر في علوم الدين وبخاصة علوم التفسير وقصص القرآن الكريم.

الثاني: إنه كان عالما مجتهدا باحثا ومدققا في العلوم الدينية الحديثة مثل علوم الاقتصاد ولذلك أصدر كتابه عن المعاملات في الإسلام وفي تقديري إنه من أهم مؤلفاته الكثيرة.

الثالث: إنه كان متواضعا شديد التواضع يتسم بالأدب الجم لا يذكر أمامه اسم عالم من العلماء السابقين أو بعض كبار العلماء الحاليين إلا ويتحدث عنه بمنتهى الأدب ويقول أستاذنا فلان رضي الله عنه، إذا كان حيا أو رحمه الله إذا توفاه الله.

وأنا أذكر هذه الأسباب الثلاثة لأنني عشتها معه عن قرب في بعض مراحل عملي الدبلوماسي عندما زارني وكنت سفيرا لمصر في باكستان، ولعل من الشواهد على ما أقول الوقائع التالية:

الواقعة الأولى: عندما أقام الرئيس الباكستاني السابق فاروق ليجاري حفل غداء على شرف شيخ الأزهر والوفد المرافق له، وحان موعد صلاة الظهر تقدم للصلاة الشيخ المعين في دار رئاسة الجمهورية الباكستانية، وكان أحد خريجي الأزهر، ولم يبدِ الدكتور سيد طنطاوي أي تبرم أو حتى رغبة في أن يؤم المصلين، ولكنني كسفير لمصر سحبت الإمام الباكستاني للخلف ثم دفعت شيخ الأزهر للأمام، وقلت بصوت مسموح أمام الرئيس الباكستاني إنه بحضور شيخ الأزهر فلا يمكن أن يتقدم شخص آخر عليه، وفعلا صلى بنا الظهر بكل تواضع وهدوء.

والواقعة الثانية: إنني اقترحت عليه – بناء على طلب عدد من الشخصيات الباكستانية – أن يزور بعض أضرحة لعلماء باكستانيين مشهورين من السنة والشيعة، فلم يتردد على رغم أن بعض مرافقيه أبدى اعتراضا على ذلك استنادا إلى أنه شيخ الأزهر، وأن هذه الأضرحة وزيارتها لا تتماشى مع الفكر السني التقليدي، وأن في ذلك شبهة فاستشهد فضيلته بقول النبي الكريم (ص) «زوروا القبور فإنها تذكركم بالموت» وأوضح أن في زيارتها عبرة وعظة. وقد أبدى الباكستانيون من الشيعة والسنة تقديرا لهذه اللفتة الكريمة لفضيلته.

الواقعة الثالثة: إن عددا من علماء باكستان أخذوا يحاورونه وبالأحرى يجادلونه في فوائد البنوك وقام بشرح وجهة نظره بكل هدوء ووقار وقمت بالترجمة له وقدم لهم كتابه عن المعاملات في الإسلام، ولم يثر ولم يغضب إزاء وجهات نظر معارضيه على رغم أنهم كانوا أقل منه علما ومنزلة، بل أبدى احترامه وتقديره لهم وأدى ذلك لاقتناع عدد من المخالفين في الرأي.

الواقعة الرابعة: إنه كان مهموما بأمر المسلمين وأثناء زيارته لباكستان العام 1996 كان الصراع محتدما بين الفصائل الأفغانية بعضها بعضا باسم الإسلام، واقترحت عليه أن يوجه نداء باسمه وباسم الأزهر الشريف لحقن دماء المسلمين وتأكيد حرمة الدماء وأن يؤكد فيه على وحدة المسلمين وتماسكهم واحترام بعضهم بعضا. ووافق فضيلته وقام عدد من مرافقيه بإعداد البيان الذي راجعه وعدله وصدر البيان ممهورا بتوقيعه وقمت بتوزيعه على الصحف وعلى مكتب الأمم المتحدة بخصوص أفغانستان أثناء حفل الغداء الذي أقمته على شرف فضيلته وضم حشدا من علماء السنة والشيعة ومن السياسيين من مختلف الاتجاهات، وتم إلقاء بيانه وقام مكتب الأمم المتحدة بترجمته للغات الأفغانية الكثيرة ولقي ذلك صدى طيبا.

لقد شاء الله أن التقي بالدكتور لأول مرة عندما زار باكستان وكنت سفيرا لمصر فيها وقدمت له عدة مقترحات استجاب لمعظمها، ورفض البعض الآخر بأدب شديد. وكانت المقترحات التي وافق عليها تتعلق بتوجيه نداء للفصائل المتحاربة في أفغانستان لوقف إراقة الدماء فيما بينهم، وكذلك زيارة بعض أضرحة الأولياء في باكستان من السنة والشيعة، هذا فضلا عن شرح وجهة نظره في معاملات البنوك، وكلها آراء سديدة لمصلحة المسلمين تتماشى مع سماحة الإسلام ويسره وتيسيره على خلق الله اعمالا لما ورد عن النبي (ص)، إنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما. وكما قال صاحب البردة «الدين يسر والشريعة سمحة» هكذا كان الشيخ سيد طنطاوي.

رحم الله الشيخ الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر الراحل فقد كان عالما مجددا شجاعا لا يهاب المواقف وتعرض للكثير من النقد والمعارضة وهذا شأن العلماء الأفذاذ وليس العلماء المغمورين الباهتين. وسيظل اسمه مسجلا في تاريخ الإسلام والمسلمين والأزهر الشريف بأحرف من نور ويكفيه أنه توفي في الأرض المقدسة ودفن فيها رحمه الله رحمة واسعة.

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 2745 - الجمعة 12 مارس 2010م الموافق 26 ربيع الاول 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 9:58 ص

      ....

      لو نظرنا لقصص القرآن الكريم.. واستشهدنا بمثال قصة بلعم بن باعوراء وقصة برسيس العابد وكيف أنهما أوتيا بعضًا من الإسم الأعظم.. ومع ذلك خاتمتهما كانت سيئة.. إذن ما يقدمه الإنسان من خير طيلة حياته من الممكن أن تهدمه زلاته وغفلته.. وبرأيي ما فعله سيد طنطاوي من التآمر على مسلمي غزة والوقوف جنبًا إلى جنب مع الجائر لا يليق بشخصية دينية مسلمة وهذا أقل ما يقال في حقه..

    • زائر 3 | 4:24 ص

      14 نور

      آه نسيت شيء مهم ألا وهو:
      في إعتقادي بأنه من وعاظ السلاطين وليس بالرجل الشجاع في الدين والسياسه ووووو.

    • زائر 2 | 4:22 ص

      14 نور

      سأطرح قضية واحده فقط:
      في الإسلام النقاب مطلب شرعي من الله سبحانه وتعالى صحيح؟
      فمن هو السيد محمد طنطاوي ليحرم ذلك ؟
      أعلم بأنه لا رد لديك يا سعادة الكاتب شفاك الله.

    • زائر 1 | 3:59 ص

      كلمة حق تقال

      بطبيعة الحال هناك مواقف جيدة وهناك مواقف مخزية ولعل اكبر تلك المواقف المخزية هو عندما وقف مع نظام حسني مبارك في كل شاردة وواردة فقد حلل قيام الجدار الفولاذي وعزل قطاع غزة بهدف تجويع اهلها الصامدين بحجة الباب اللي ايجي منه الريح سده واستريح وبالتالي شرع بما لا يرضاه الله ثم اذا كانت بينك وبينه مصالح فما ذنب الشعوب العربية والفلسطينية

اقرأ ايضاً