العدد 2750 - الأربعاء 17 مارس 2010م الموافق 01 ربيع الثاني 1431هـ

الباحث السوري عمر كوش يرصد المفهوم الثقافي في ارتحاله

في كتابه (أقلمة المفاهيم)

صدر عن دار المركز الثقافي العربي الدار البيضاء المغرب (كتاب أقلمة المفاهيم) لمؤلفه عمر كوش وهو يدرس تحولات المفهوم في ارتحاله، استثارني هذا العنوان وأنا أمر بعيني بين عناوين الكتب المنبسطة أمامي فرحت أتصفحه وراق لي أن أراجعه وأهدي هذه المراجعة للقارئ، وذلك لما أحسسته من أهمية منهجية لمراجعة مثل هذه الجوانب من البحوث.

أول ما استوقفني في الكتاب هو الصيغة الصرفية لعنوانه اللافت والمنبّه إلى الموضوع المطلوب دراسته بالتحديد وقدرة هذه الصيغة فنلوجيا عبر (أقلمة / أفعلة أو فعللة) ومدى دلالتها التحول والتلبس وعلى بيان عملية التبيئة والنقل من بيئة إلى أخرى بشكل مختصر، ثم ما توقعته من رصد لمفاهيم تحوَلت معانيها وظلالها عبر ارتحالها من حضارة إلى أخرى وخصوصا أن الحضارة العربية الإسلامية أصبحت تعج بكثرة المفاهيم، وتضج بكثرة الرؤى حولها ولهذا التوقع التقطت هذا الكتاب من بين العناوين الأخرى التي مازالت تستدعي من يتصفحها.

وتكمن أهمية هذه الدراسة في أنها تلتفت إلى ظاهرة عادة ما يتركها الباحثون وراء ظهورهم في التعامل مع المفاهيم فيأخذون بالمفهوم وكأنه قد قرّ وثبت من غير الرجوع إلى البيئة الأصلية التي خرج منها مما يوقع بالكثيرين في الإشكال واللبس وخصوصا في المفاهيم المترجمة التي تم أقلمتها في بيئات جديدة ومختلفة في التعامل مع المفاهيم والتي عادة ما تكون لها شبكة من المفاهيم المتداخلة والمتشابكة مع بعضها البعض فلا نأمن اللبس وتزداد الإشكاليات المعرفية كلما تداخل هذا المفهوم المأقلم مع البيئة الجديدة وخصوصا عند قطعه عن بيئته الأصلية والذي قد يموت بسبب قطعه عنها كما أن اجتـزاء المفهوم من دون ما حوله ربما يجعله لا يعمر طويلا كما هي موضات المدارس أو المصطلحات أو المفاهيم الأدبية العائمة التي تتمظهر بين الفينة والفينة ونسأل عنها فلا نجد لها ذكرا، ولكن هذا لا يقلل من قيمة وقدر المفهوم في صناعة الحراك الثقافي والأدبي والنقدي بين الحضارات والشعوب، ومن الأغراض التي قام عليها موضوع الكتاب هو لفت النظر وإثارة الانتباه إلى أهمية المراجعة المستمرة إلى المفاهيم القارة عبر تتبع المفهوم في ارتحاله.

احتوى الكتاب على ثلاثة فصول في (192 صفحة) وعنوَنَ المؤلف هذه الفصول بمفردة الجزء محاولا أن يجزئ الظاهرة من أجل الدراسة والرصد وهي حيلة استراتيجية فاعلة في رصد الظاهرة وتثبيتها من أجل الإمساك بتشعباتها المتسربة؛ وكأني به قد اتبع نصيحة ديكارت في قواعده الأربع والتي منها أن يقسم الباحث المشكلة التي تصادفه ما وسعه التقسيم وما يتطلبه حلها على خير وجه، وقد قسّم المؤلف البحث فكان بالشكل التالي:

الجزء الأول: السؤال: المفاهيم وحركات الأرضنة.

الجزء الثاني: نقد التمركز نقد الميتافيزيقا.

الجزء الثالث: المفهوم الاختلاف.

في الجزء الأول تحدّث الكاتب حول الحق في الفلسفة كحق طبيعي ملازم للإنسان مشيرا إلى هيغل وربطه بين حق الفلسفة والحرية وكانط الذي اسند إلى الفلسفة النظر في كافة أجزاء المعرفة فهي تحاسب وتراقب وتقي بناء على اعتبارها ممارسة طبيعية للعقل الذي فرض سلطته عليها لأن (العقل) هو المؤسس لحق الفلسفة والمتحكم فيها انطلاقا من تعالي محكمة العقل، ثم انتهى الكاتب إلى دريدا الذي أخذ يفكك حق الفلسفة عبر مجموعة من الأسئلة منها: من هو الذي يفكر عبر الفلسفة أو يتحدث ويناقش أو يتعلم ويعلم أو يمثل ويتمثل هذه الفلسفة؟ وعن أية فلسفة نتحدث؟ ومن هو الفيلسوف؟ وهل يمكننا أن نتفق على مفردة الفلسفة ذاتها؟ وفي أي فضاء يطرح السؤال الفلسفي ومتى ننعت قولا أو جملة أو فكرة أو ممارسة ما بأنها فلسفية.

ثم تحدث عن توقف الفلسفة العربية مشيدا بأهمية الممارسة الفلسفية مشيرا إلى دريدا الذي دعا إلى وقف التشريعات المعرقلة للفلسفة والتي لن تنطلق إلا إذا أصبحت مؤسسة مستقلة عمّن يمارس السلطة عليها ويقمعها أو يقيّدها بقيوده كما بيّن أن ليست هناك فلسفة واحدة وإنما فلسفات متعددة بتعدد الأقاليم مستشهدا بنظرة دولوز، وما محاولة جعل الفلسفة اليونانية هي الأصل والأساس للفلسفة إلا بسبب التمركز حول الذات في الحداثة الغربية مع الحركة الأوربية التي اعتبرت الإطار الإغريقي القديم كشكل لماضيها في حركتها لأوربة الآخر وجعله مطابقا للنموذج الرأسمالي الأوربي.

ولكي يعاد للفلسفة حريتها وانطلاقها تحدث دولوز عن لانهائية السؤال الذي يثير المعرفة ولكنه لا يكف عن الظهور وخصوصا السؤال الفلسفي الذي يتجاوز ذاته فيستدعي أسئلة أخرى في توالد مستمر من غير تمركز معين رغم محاولة حصره في أطر معينة أو تقييده عبر خلق الإجابات الجاهزة إلا أنه يهرب في كل مرة معلنا استقلاليته عن التمركزات التي تحاول أن تجمع الأدوات الفلسفية تحت جناحها من أجل فرض هيمنتها وتمرير سلطتها بشكل مستمر.

بعد هذا يدخل الكاتب في صلب الموضوع ليبحث في تعريف المفهوم فيشير إلى صعوبة تعريف المفهوم لأن ذلك يتعلق بالأدوات التي تنتجه، واختلاف وتعدد المعاني والدلالات التي يثيرها ويخلص إلى إمكانية القول إن المفهوم كائن اصطلاحي شرطي لحصول الفهم له حياته الخاصة في التربة المعرفية التي تنتجه في إطار المشكلات التي تطرحها والتساؤلات التي تجيب عنها في سياق المجال المعرفي الخاص للمفهوم.

ثم يشير الكاتب إلى المفهوم الفلسفي الذي يتعلق باللغة التي ينتج فيها بصورة لفظية أو بناء خاص فيحمل مدلولاته المضمرة والمعلنة لذلك تقوم اللغة بطباعة المفهوم حسب طابعها الخاص فالفيلسوف عند وضع مفهومه يقوم بتشقيق الكلام وفق معايير ممارسته الفلسفية في اللغة الحاضنة لها وهو بهذا يستشهد بـ (غرانجية) (وهيدغر) في الربط بين الفلسفة واللغة ثم يوجه نقده لـ (هيدغر) الذي من خلال ربطه السابق بين الفلسفة واللغة اعتبر اللغتين اليونانية والألمانية هما اللغتان الفلسفيتان الوحيدتان بين لغات العالم، فيرد هذه المقولة إلى نظرة تمركزية أنتجتها ميتافيزيقيا التمركز الغربي على الذات، ثم التبس المفهوم لدى الفلاسفة التقليدين فانتقل هذا الالتباس إلى الفلسفة العربية وتجلى ذلك في سياق أقلمة المفاهيم ووضعها.

ثم ينتقل الكاتب بقارئه إلى وظيفة الفلسفة التي تتمثل في خلق المفاهيم الجديدة كما هي رؤية (جيل دولوز) الذي أشار إلى أن الفلسفة هي المجال المعرفي الوحيد الذي يقوم دوما بخلق المفاهيم غير أن المفهوم الفلسفي يتركب من مجموعة عناصر إذ لا يوجد مفهوم مفرد أو بسيط وذلك بسبب العلاقات المتبادلة والمشكلات المتعددة والدلالات المتنوعة التي تكسبه معناه، فمفهوم الذات يقتضي استحضار الآخر وهكذا كل مفهوم يستدعي ويحيل إلى مفاهيم أخرى ويتغاير بتغاير حقله الإدراكي ويقترن المفهوم بتاريخه، فمثلا مفهوم الآخر في الفلسفة العربية الإسلامية اقترن بأهل الكتاب والكافرين ثم الذمي دافع الجزية ثم النصراني ثم الإفرنجي المبهم في العصر الوسيط ثم الغربي الاستعماري في العصر الحديث إلى آخره وبذلك يسير المفهوم نحو اللامتناهي بتعدديته واستشكالاته كلما مر عليه عنصر الزمن واتسعت الرقعة الجغرافية والمعرفية إيجابا وسلبا.

وتحت عنوان أقلمة المفاهيم يشير الكاتب إلى علاقة الإقليم بالأرض، إذ غالبا ما كانت الدول والمدن تتحدد بأقاليم مثل السومريين والأكديين والآشوريين والآراميين واليونانيين، وقد كانت هذه المدن تحقق حركات الأقلمة للمفاهيم عبر أسواقها وشبكاتها التجارية والثقافية أو عبر امتدادها الإمبراطوري.

وحول مفهوم الغرب يشير الكاتب إلى أن مفهوم الغرب في العصور القديمة لم يكن سوى موضع جغرافي ونقطة إذ تغيب الشمس ولكن مع ظهور الرأسمالية أضحى الغرب قوة تنزع إلى امتلاك الأفق كله، وتأسس الغرب أيدلوجيا كصيرورة قابلة للتعيين أنتجتها عملية التمركز حول الذات وتأسست معها الهوية والتصورات الذهنية الميتافيزيقية في القرون الوسطى على خلفية اللاهوت المسيحي، وبهذا أصبح الأوروبي ينظر إلى نفسه كإنسان متميز يخترق الآخر ويحثه على التأورب، ثم اكتشف الغرب ذاته في العصر الحديث فسعى إلى أن يتأرضن عبر الرأسمالية في صور شتى: ديمقراطية الأغلبيات، ودكتاتورية عسكرية أو فاشية وكليانية شمولية، عبر انطلاق الأيدلوجيا الغربية واقترانها بالأطماع التوسعية من خلال مفهوم جديد، لذلك فالعالم بحاجة لمقاومة الحاضر حتى لا يتم استنساخه وأوربته عبر حركة التمركز التي تريد إعادة مطابقة الشعوب الخاضعة الضعيفة للنموذج الأوروبي قسرا من خلال حركة العولمة التي خلقت أنماطا جديدة من التفكير وعملت على أرضنتها وفق معيارية السوق.

المفاهيم تنتقل مثل البشر المهاجرين عبر الأقاليم وفي مختلف المجالات المعرفية عبر الترجمة في تمثل وهضم يؤدي إلى إثرائها بشكل مستمر عند توافر الشروط اللازمة لهذه العمليات، ولكل مفهوم بيئته المعرفية وإشكالياته التي يحملها وينطبق ذلك على مفاهيم عدة مثل الفلسفة التي أصبحت حب الحكمة، والكوجيتو الديكارتي الذي أصبح أنا أفكر فأنا إذا موجود وعالم المثل الأفلاطوني ومفهوم العقل والنص والقول، وهذه مجموعة من المفاهيم التي انتقلت من بيئاتها إلى البيئة العربية فيا ترى هل انتقلت من غير منهجية مدروسة وهل اقتصرت على الترجمة فقط؟

هذا ما أتركه للقارئ ليدخل في رحلة مع الكتاب الذي أعتقد أنه يفتح أفقا مهما في البحث المعرفي.

العدد 2750 - الأربعاء 17 مارس 2010م الموافق 01 ربيع الثاني 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً