العدد 597 - السبت 24 أبريل 2004م الموافق 04 ربيع الاول 1425هـ

العنف السينمائي بين الواقعية والمبالغة

Elephant

من أحدث أفلام المخرج غاس فان سانت فيلم Elephant الفائز بإحدى جوائز مهرجان كان الدولي وهو فيلم استثنائي رفيع المستوى يثير فينا خليطا من مشاعر الخوف والقلق كما يسحرنا بروعته وهو يحكي قصة نادرة جدا، قصة المذبحة التي حصلت في مدرسة كولومبين الثانوية في ايرلندا. الفيلم يثير الكثير من الأسئلة في أذهاننا ليَتْركَنا لإيجاد الأجوبة بأنفسنا. يبدأ الفيلم في يوم جميل مشمس في المدرسة الثانوية نقابل فيه نوعيات مختلفة من الطلاب الذين يتوزعون في مختلف أنحاء المدرسة ونستمع إلى محادثاتهم لنتعرف عن كثب على حياة المراهقين وعلى إبداعاتهم ومللهم وضجرهم وشقاوتهم و الأمور التافهة التي تستهويهم. ولكن هذا اليوم العادي يتحول في النهاية إلى مشهد دموي في صفحات التاريخ إذ يقوم اثنان من طلبة المدرسة المهووسين بتصويب مسدساتهم نحو زملائهم وقتلهم.

يعتبر الفيلم مذهلا من جميع النواحي سواء من ناحية الموسيقى التصويرية المذهلة أو من ناحية ترتيب الحوادث فهي تأتي طويلة ولكنها سلسة ومترابطة بحيث تنقلنا الكاميرا من شخصية لأخرى إلى أن تتداخل وتتشابك الحوادث. كما أن الوقت في الفيلم مرن جدا إذ يتحكم فيه غاس بإبطائه أو تسريعه تبعا للدرجة التي يكون عليها مزاج الشخصيات. انه يصور الشخصية المتذبذبة للمراهقين بشكل مبدع فالأشياء التافهة قد تكون اكبر من حجمها في نظرهم و أي لحظة قد تغير من مجرى حياتهم إلى الأبد.

إن ولع غاس بتصوير أفلام تتناول حياة المراهقين لا يعتبر أمرا جديدا في أفلامه بل إننا لا نشعر بالعجب أبدا عندما نقابله شخصيا إذ يبدو مظهره أصغر سنا من رجل في الخمسين من عمره وهو ليس من النوع الذي يجيب فور سؤاله في مقابلاته بل أنه يستمع إلى السؤال بتأمل ليجيب عليه بدقة وروية ومن الواضح جدا أن غاس من خلال عمله كمخرج يلتمس طريقه خلال الموضوعات والأفكار، من دون أي تصورات سابقة وبدون أي فكرة مسبقة عن النتيجة. وعلى رغم أنه قد يبدو مبهما وغير صريح في لقاءاته فإنه يتميز بمرونة عالية وقابلية للتكيف. إن معظم أفلامه تبدو وثائقية، إذ إنه مستعد لتصوير أية فكرة أو أي حدث مهم ليحيط بجميع تفاصيله.

أكبر مثال على ذلك هو فيلمه Elephant فعندما أظهر غس استعداده لعمل فيلم عن قصة كولومبين، رفض معظم المنتجين مساعدته لأن القصة برأيهم كانت واضحة جدا ومكررة، إذ قام المخرج البريطاني آلين كلارك بإنتاج فيلم مشابه يحمل الاسم نفسه وتدور حوادثه حول عمليات إطلاق النار التي حصلت في ايرلندا الشمالية.

إلا أن غس لم ير فيلم كلارك الا بعد عرض فيلمه ولكنه كان يعرف جيدا بأنه الفيلم المفضل لصديقته الكاتبة والمخرجة هارموني كورين التي ساعدته في كتابة نص الفيلم. لقد أساء غس فهم الأسباب التي دعت المخرج البريطاني لتسمية فيلم Elephant إذ اعتقد أن الاسم جاء من حكاية رمزية بوذية قديمة عن مجموعة من الأشخاص فاقدي البصر وفيل إذ تركز كل مجموعة على دراسة جزء معين من أجزاء الفيل ليحصل كل واحد منهم في النهاية على فهم مختلف عن الفيل ليعتقد أن رأيه هو الأصح، ولكن لا أحد منهم يلتفت إلى دراسة جسم الحيوان ككل. لكن المخرج كلارك أكد لاحقا أن عنوان الفيلم يرمز الى المشكلة الضخمة التي يدركها الجميع ولكن لا يبدي أي أحد استعداده لحلها أو حتى التفكير فيها.

ويؤكد غس قائلا «إن فيلم Elephant لزميلي المخرج كلارك كان من الأفلام التي شاهدتها وهو شبيه بعدة أفلام أعجبتني وتأثرت بها في الفترة الأخيرة». وعندما حان وقت تصوير فيلمه قرر أن ينتج فيلما أقرب ما يكون إلى الواقعية بالاستعانة بشخصيات حقيقية من طلبة المدرسة الثانوية الذين شهدوا الحادثة بدلا من توظيف ممثلين محترفين، إذ استمع إلى أفكارهم ومشاعرهم حيال هذه التجربة المرعبة. ويواصل غس حديثه «إن آراء الطلبة المختلفة عن العنف هي التي كونت وجهة نظري عن الموضوع». ومع ذلك عندما نصل إلى ذروة الفيلم والتي من المفترض أن تحتوي أكثر المشاهد دموية ورعبا نجد أن غس حاول جاهدا ألا يستغل هذه اللحظة ليحشوها بكل المشاهد المرعبة. إن العنف الموجود في فيلم Elephant هو عنف سطحي تماما وخال من الإثارة المعتادة التي نجدها عادة في أفلام العنف، ويبرر غس ذلك بقوله «لقد أردت للفيلم أن يكون حقيقيا على رغم أنني لم أر في حياتي مشهدا حقيقيا لشخص يطلق عليه النار ولكن ما يدهشني حقا هو اننا عندما نتعرض لمشهد عنف أو عندما نرى اثنان يتعاركان في الشارع يكون الموقف عادة مثيرا للشفقة وغير منسق بحيث يكون مختلفا تماما عن المبالغات والمؤثرات التي تعرضها السينما».

وعلى رغم من الجهود التي بذلها غس للحيلولة دون المبالغة في تصوير الحدث فإنه اتهم من قبل البعض باللامسئولية ويدافع غس عن نفسه بقوله: إنه لا يعتقد أن فيلمه يستحق الانتقاد لمجرد انه لا يعطي التبرير الواضح لما حصل لأنه يحث المشاهدين أنفسهم على التفكير في الأسباب التي أدت إلى حصول هذه المذبحة الشنيعة.

ويضيف غس أعتقد «ان بعض الأشخاص ممن انتقدوا الفيلم غاضبون على طريقة إخراجه لأنهم يريدون فيلما ذا حوادث أكثر تقليدية ودراماتيكية».

ويواصل غس «لقد فكرت كثيرا في الموضوع قبل عمل الفيلم واعتقد أن الأشخاص الذين سيشاهدون الفيلم قد يكون لهم رأي مسبق عن الموضوع، لذلك فإنني لم أحاول فرض وجهة نظري بل تركت المجال مفتوحا للمشاهدين للتعبير عن أفكارهم بحرية لأنني أعتقد أنهم أذكى مني ويستطيعون إيجاد تبريرات أفضل لما حصل فإذا حددت من هذه الإمكانات سيكون تصرفي هذا لا مسئولا».

ويضيف غس «إن الثقافة الأميركية قائمة على سياسة الانصياع والالتزام بما هو سائد في المجتمع، فمعظم أصدقائي يمتلكون أحدث السيارات ويشجعون أولادهم ليصبحوا أشخاصا متألقين في المجتمع ويحققوا أعلى الدرجات العلمية. هناك نوع من الضغط على الأطفال للتميز واثبات أنفسهم منذ فترة الصغر. ان الصغار الذين قاموا بإطلاق النار على زملائهم هم أشخاص ينتمون إلى هذه الفئة وربما أرادوا إثبات أنفسهم» وينهي غس حديثه قائلا: «إن الناس لا يمكن أن تتقبل حقيقة أنهم لا يستطيعون تمييز القاتل أو الشخص الفاشل حتى وان كان يسير أمامهم مباشرة وهذا يلقي باللائمة على المجتمع الذي يشجع الطلاب الصغار على التميز فإذا لم تكن تلميذا متميزا فانك تصنف ضمن الفئة الخاسرة وتلاحقك وصمة العار طوال حياتك»





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً