العدد 613 - الإثنين 10 مايو 2004م الموافق 20 ربيع الاول 1425هـ

من الذي قتل رضي مهدي؟

«آه من قيدك أدمى معصمي»

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أجزم بأن أحدا من القراء لم يسمع بهذا الاسم الذي طواه النسيان. حتى أن إحدى الجمعيات السياسية عندما أرادت إصدار تقويم يضم شهداء الوطن قبل عامين لم تعثر له على صورة، فأبقت مكان صورته فارغا.

لم يكن رضي مهدي كاتبا ولا شاعرا ولا وزيرا، إنما كان أحد المواطنين البسطاء الذي شاءت الأقدار أن تصيبه لعنة السياسة في بلادنا. انتزع من فراشه منتصف إحدى الليالي ليدخل المعتقل في مطلع الثمانينات، وبوشر بتعذيبه لساعاتٍ دون توقفٍ حتى الفجر. وأجبر على الوقوف على رجليه عدة أيام حتى دخل مرحلة الهلوسة، فأخذ يهذي بالكلام. أصيب بمرضٍ نفسي منذ الأيام الأولى للاعتقال، ومع ذلك حكم عليه القاضي النزيه بخمسة عشر عاما. عاش في السجن محنة شديدة، إدارة السجن كانت تتصور أنه كان يمثل عليها لتفرج عنه. وفي فترة سطوة «قانون أمن الدولة»، لم يكن هناك من يسمعك، حتى لو متّ تحت التعذيب. لم يكن هناك شيءٌ اسمه «حقوق إنسان» يجب مراعاتها، ولا كرامةُ بشرٍ يجب حفظها. المواطن في ذلك العهد كان متّهما مدانا حتى تثبت براءته، ومن الذي يجرؤ على إثباتِ براءةِ مواطنٍ بسيط؟ وعلى خلاف ما يجري في أمم الأرض المتحضرة، تكفي كلمةٌ واحدةٌ من أحد الوشاة ليدخل المعتقل وينال نصيبه من «الثروة الوطنية»!

ظل رضي مهدي كذلك، حتى ساءت حاله وتدهورت أوضاعه الصحية، فنقل عن زملائه السجناء في سجن جو رقم (1)، الزنزانة رقم (3)، إلى زنزانة انفرادية ضيقة معزولة ليعيش فيها عدة أشهر. شدّدت الإجراءات الأمنية عليه ظنا منهم أنه ربما يحاول الفرار بعد أن قضى في العذاب المقيم خمس سنين! كُبّلت يداه فكان ينام ويستيقظ والقيود تدمي معصميه. وفي شهر أغسطس/ آب 1986 مُنع عنه الماء والطعام، الشهر الذي تعرفون كم تبلغ درجة الحرارة فيه هنا في البحرين. أخذ يذبل ويذوي حتى جاءوه ذات يوم وهو بلا حراك، بعد أن مات جائعا عطشانا. سُلّم إلى أهله ليدفن في مقبرة الدراز، وحين أقام أهل قريته لشهدائهم في التسعينات قبورا ربما نسوه.

أصحابه في السجن لم يسمعوا عن مقتله إلاّ بعد سنة ونصف السنة، بفعل الحصار المشدد عليهم ومنعهم من مقابلة أهاليهم لفترة سبع سنوات. حينها كان سجن جو يستضيف عددا من السجناء الجدد العام 1987، من بينهم بعض المحامين والمدرسين من الحركة الوطنية، قاموا بإضراب عن الطعام احتجاجا على الاحكام الصادرة بحقهم، فنقلوا إلى «جو» عقابا لهم على الإضراب، وهناك كانت فرصة السجناء «الأقدم» في البحرين ليعرفوا أن صاحبهم شبع من النوم تحت التراب. حينها أقاموا له الفاتحة بعد سنة ونصف السنة من انتقاله إلى الملكوت الأعلى هناك لا أدري ماذا قال لهم في السماء، بعد أن صمّت الأرض اذانها عن سماعه.

سؤال إلى أباطرة الصحافة

صفحةٌ حزينةٌ من تاريخ بلادنا، لم أشأ أن أقلّب بها المواجع، ولكن أردت أن أقدّمها للجميع، صارخة من دون رتوش أو مبالغات. مواطنٌ يُعتقل ويُعذّب ويمرض ويُكبّل بالقيود ويحرم من الماء والطعام في عز الصيف حتى يلقى ربه على تلك الحال. أقدمها في هذه الأيام بالذات لأذكر الجميع، بفظاعة الحل الأمني الذي لا يجيد البعض غير الترويج له.

أريد أن أذكّر الجميع بفظاعة توجيه التهم المجانية إلى المواطن البريء الذي لا يجد ناصرا يلجأ إليه إلا الله. أريد أن أصرخ في وجه الجميع أن السجن ليس حلا لمشكلات المجتمع المتراكمة، ولن يكون علاجا لأزمات الوطن الذي نريد أن يخرج منها معافى، بأقل قدرٍ من الأضرار، ليحتل مكانه تحت الشمس ويقف متباهيا بين الأمم المتحضرة التي تقيم للإنسان وزنا، بدل اللجوء إلى السجن كلما نشبت أزمة أو ثارت مشكلة بشأن قضيةٍ سياسيةٍ معلّقة لم تُحلّ.

أريد أن أقول إن السجن هو الخيار الأسوأ الذي نلجأ إليه عند عجزنا عن معالجة مشكلاتنا الوطنية، ولا فرق بين اعتقال رئيس جمعية «كبير» أو شاب «صغير» بحسب لغة أحد النواب، فالاعتقال يبقى انتهاكا لحرية الإنسان وسفحا لكرامته وامتهانا لإنسانيته، والإجراءات الأمنية، تبدأ صغيرة دائما، ولكنها تنتهي بالدواهي الكبرى، حتى وصل عدد المعتقلين في هذا البلد الصغير في فترةٍ ما إلى أكثر من ثلاثة آلاف، بعضهم قضى نحبه، وبعضهم خرج بعاهاته، ولم يسلم منهم أحدٌ من التعذيب.

هل يريد المبشّرون بالسجون، «أباطرة الصحافة» المتنعمون، أصحاب السيارات الفارهة والجاه العريض، أن نعود إلى زمن التجويع وفقأ العيون وثقب طبلات الآذان في السجون؟ هل يبشّر أصحاب الافتتاحيات المبتذلة بعودتنا إلى نعيم «أمن الدولة»؟ هل يريد المحرّضون من حملة الأقلام، النافخون في كير الفتنة، المؤججون للنيران، أن يعود مهدي صالح ليقتل من جديد؟

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 613 - الإثنين 10 مايو 2004م الموافق 20 ربيع الاول 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً