العدد 676 - الإثنين 12 يوليو 2004م الموافق 24 جمادى الأولى 1425هـ

إطلالة على عمل إبداعي: «أنا بحب السيما»

فيلم جيد أفضل من ألف خطيب مفوه

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

قبل أن نجلس للقاء الشيخ ناطق نوري قبل سنوات، وكان وقتها رئيس البرلمان الإيراني، وكنا وفدا ثقافيا كويتيا يزور العاصمة الإيرانية طهران، بادرنا بالقول: «هل أنتم وفد ثقافي؟»، ثم أردف من دون أن نجيب: «إن فيلما واحدا جيدا، أفضل من ألف خطيب مفوه».

وقتها فاجأتني الظاهرة، رجل دين إيراني يمتدح الأعمال السينمائية إلى هذه الدرجة من الاحترام والإجلال، وقد تبين أهمية هذا النوع من الأعمال الفنية للمجتمع.

بعد ذلك بسنوات بدأت السينما الإيرانية تحصد الجوائز، وتقدم المجتمع الإيراني الجديد بأفضل مما تقدمه الخطب والبيانات الرسمية. ليس ذلك فقط، بل أصبحت السينما والفن السينمائي ومبدعوه محط اعتزاز المجتمع، وقد أكد ذلك أخيرا فيلم «فيرنهايت 9/11» لمخرجه ذائع الصيت اليوم مايكل مور، الذي قدم العرب بأفضل مما كان يطمح به أي عربي في هذه الفترة الساخنة من الخلط بين ثلاثة متناقضات وهي العرب والإرهاب والإسلام.

السينما إذا أجيد تقييمها وكان وراءها فكر نيّر تستطيع أن تقدم للمشاهد شيئا مختلفا، شيئا معاشا ولكنه خيالي يطلق العنان للكثير من الأفكار والمبادرات الحية التي تقود المجتمع إلى الأمام. من ذلك هذا الفيلم الذي شاهدته الأسبوع الماضي على هامش زيارة سريعة للقاهرة، صديق صحافي مصري أوصى به، فذهبنا: الصديق المصري الشاب، والصحافي اللبناني المعتق ذو التعليقات الجميلة وأنا، لمشاهدة فيلم... «أنا أحب السيما».

القصة هي قصة عائلة مسيحية مصرية، وتدور فكرة الفيلم في حي معروف بأنه حي يقطنه الكثير من المسيحيين المصريين، وخلفية الفيلم هي ستينات القرن الماضي لأن صوت الرئيس جمال عبدالناصر يأتي من خلف سرد الحوادث، ولكنه ليس واضحا كل الوضوح في السرد السينمائي، إذ كان متقاطعا في مفاصل من تاريخ مصر الحديثة: تأميم القناة، حرب العام 1956 وغيرهما من الحوادث، ولكنه الظلال فقط. أما صلب الفيلم فهو يحكي قصة طفل يروي حياته الأسرية، مع الأب (محمود حميدة) المتشدد دينيا، ويعمل اختصاصيا اجتماعيا في مدرسة، والأم (ليلى علوي) ناظرة مدرسة مختلطة للأطفال، وأسرتاهما (الأب والأم). أما الطفل (يوسف عثمان) فهو البطل غير المتوج للقصة، وهو في الحقيقة طفل عبقري استطاع المخرج (أسامة فوزي) أن يظهر أفضل وأسوأ ما في الأطفال في سنه الصغيرة.

مع تشدد الأب الديني الذي يحرم كل بهجة بدءا من التلفزيون والأغاني حتى السينما، ويعتقد أن الموت قد يأتيه فجأة، لذلك لابد أن يكون مستعدا له، بأن يكون طاهرا من كل الأدران. في المقابل يحب الطفل الصغير أن يذهب إلى السينما لأنه يعشقها ويسمع عنها كثيرا من أقرانه، بل ويحتفظ بلعبة صغيرة بها صور ينظر إليها في تلصص كلما سنحت له الفرصة.

ولأن والده يعتبر مشاهدة السينما حراما، فيتوافق الطفل مع الفكرة باعتباره عاصيا وخاطئا وسيذهب إلى النار بعد الموت، فلماذا المخاتلة مادام حبه للسينما التي لا ينفك منه وهو خاطئ إن فكر في السينما أو شاهدها، فليكن ذلك مادام خاطئا فليخطئ أكثر! وبهاتين الفكرتين تدور حوادث الفيلم المشوقة.

وبين تشدد الأب غير الصحي والشاذ إلى حد كبير، وبين الحياة اليومية التي ظلت تطحن المواطن المصري في ذلك الزمن، وربما كل زمن، تدور حوادث الفيلم المركبة: تشدد الأب الديني يأخذه إلى تشدد أخلاقي، فيهاجم ناظر مدرسته بالفساد وسرقة أموال المدرسة، ويتهم الرجل بأنه (سب القيادة الكبيرة)، (تحويل الخاص إلى عام) الأمر الذي يدخله في حفلة مع الأجهزة، التي تنال منه من دون رحمة أو شفقة. هنا يفقد الرجل رشده، ويناجي ربه هل هو على صواب ومؤمن بالفعل إن كان كذلك، فلماذا حدث له ما حدث؟ وما إذا كان هذا العذاب الذي يلقاه يستحقه لأنه فقط مؤمن!

وهي معضلة تواجه الكثيرين في الحياة، ولكن الفيلم أسقطها في سرده الممتع في ذهن المشاهد بدقة متناهية تكاد لا تُلمس في وعي المشاهد، بقدر استمتاعه بتسلسل الفيلم، وهو أمر لا يستطيع أي فن آخر أن يقوم به غير هذه التي تسمى أم الفنون. وقامت ضجة في المجتمع الثقافي والديني المصري بسبب هذا الفيلم، أولا لأنه يحكي قصة عائلة مسيحية مصرية، ونادرا ما تناقش قضايا هذا القطاع من الناس علنا، كما حدث في مسلسل «أوان الورد» الذي لقي مثل فيلم «أنا بحب السيما» الكثير من النقد. «أنا بحب السيما» في قراءتي الخاصة، هو فيلم يتعدى الحكاية البسيطة لعائلة مسيحية، إنه أعمق من ذلك بكثير والذي أثار الضجة ربما وجد أن يتشبث بالظاهر من رواية الفيلم، إلا أن الفيلم يتحدث عن «الحرية»، حدود تلك الحرية بين الخالق وبين عباده، وحدودها في المجتمع، وهو يقدم حالا مصرية بسيطة بصرف النظر عن كونها مشخصة في العائلة المسيحية تلك، إنها للمشاهد الفطن حال عامة. مهاجمو الفيلم كثيرون منهم هيئات دينية مسيحية، وأصبح الهجوم كثيفا إلى حد رفع دعوى مستعجلة بأن يمنع الفيلم منعا باتا وقطعيا، بحجة أنه أظهر مشاجرة في كنيسة أو حالات غزل بين مراهقين من الجنسين. ظهر من مقدمة الفيلم التوثيقية أن السلطات ترددت أصلا بالسماح بعرض الفيلم، إذ لاحظت في مقدمته أن الفيلم مجاز العام 2000 ولم يعرض إلاّ الآن، يعني أن هناك أخذا وردا بين البيروقراطيين سبق عرضه، ثم انتصر الرأي الذي يقول إن يراه الجميع عدا الأطفال في سن معين، الأمر الذي حرم الأطفال من رؤية عمل رفيقهم العبقري يوسف عثمان. المعترضون على الفيلم يعتبرونه إساءة إلى العائلة المسيحية العادية، وهو افتراض يصح إن خرج المشاهد برأي أن كل الأسر المسيحية في مصر على هذه الشاكلة، إلا أن افتراضهم في الغالب غير صحيح أو علمي، إذ إن البعض يعرف على وجه الدقة أن السرد السينمائي هو سرد ليس إلى واقع ولكن إلى متخيل، قد يتشابه مع بعض الواقع في بعض هوامشه، ولكنه بالتأكيد لا يعبّر عن الواقع الشامل، وهي قضية لها علاقة بالثقافة العربية بعامة، إذ إن التخصيص في كثير من الحالات لا يعني التعميم، وهو دليلٌ على عدم نضج في التفكير الثقافي منه إلى نضج حقيقي.

فكثيرا ما صوّرت السينما الدولية الشخصية الايطالية أو الأميركية بصورة أو بأخرى، وكذلك الصينية أو اليابانية أو حتى الألمانية، التي كثيرا ما تظهر في السينما الدولية على أنها متشددة ونازية، ولكن هذا لا يؤخذ مأخذ الوقوف بحزم أمام مشاهدات تتم أساسا وفق خيال المخرج والكاتب.

أعتقد أن الفيلم من منظره الأوسع هو خدمة لهذه الشريحة من المصريين، فقد أظهر المخرج وهو مسيحي، أن المسيحيين المصريين هم مصريون أولا وبعد ذلك، فالعائلة تتصرف بعفوية الناس المصريين العاديين، فعاداتهم وملابسهم وحتى استجابتهم لمثيرات الخارج وعلاقتهم ببعضهم هي علاقات لا تفرقها عن المصري العادي، بل إن هناك من يتأفّف من الوضع القائم وقتها إلى درجة الهجرة، كما فعل أحد أفراد العائلة التي ظهرت في الفيلم، أما مشاركتهم العامة فتدل على انخراط بعض شبابهم في الجيش للدفاع عن الوطن.

إن شجاعة المنتجة سعاد يونس وكاتب القصة هاني فوزي وإصرار العاملين فيه على إتمامه وعرضه على رغم ما قيل عن مشكلات حقيقة واجهت الفيلم، يدل على أن وعيا سينمائيا جديدا يظهر في السينما المصرية، وهي في عزها قبل الثورة قيل إنها كانت تأتي في الدرجة الثانية من الدخل القومي بعد القطن المصري، ومازالت السينما المصرية من الفنون القليلة التي بقيت لمصر فيها الريادة، فلم تعد لا الأغنية العربية ولا الكتاب العربي حكرا على المنتج المصري كما كان، وحدها السينما مازالت المسيطرة على سوق عربية كبيرة.

الحرية وليدة المسئولية، والنقاش الدائر حول فيلم «بحب السيما» في الصحافة المصرية هو نقاش لصالحه ولصالح الصناعة السينمائية، والمطالبة بعدم زج المؤسسة الدينية في معركة فيلم هو عين العقل كما يطالب كثير ممن التقيتهم من مثقفي مصر وكتابها في الأسبوع الماضي، وهو فيلم في تقديري يستحق أن يشاهد.

* كاتب كويتي

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 676 - الإثنين 12 يوليو 2004م الموافق 24 جمادى الأولى 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً