العدد 693 - الخميس 29 يوليو 2004م الموافق 11 جمادى الآخرة 1425هـ

ماذا تعني مسألة «التخلف» و«التقدم»؟

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

القراءة الموضوعية (الزمنية) لمفاهيم «التقدم» و«التخلف» أو «التمدن» و«التوحش» تسهم في تقليل أهمية العوامل الذاتية (الإرادية) في ترتيب دول العالم بين متقدمة ونامية ومتخلفة. هذا لا يعني أن العوامل الداخلية غير موجودة أو أنها مجرد عناصر ملحقة بالخارج، إلا ان وضع الأسباب الداخلية في إطارها الزمني يخفف كثيرا من الغرق في تفسيرات ضيقة لا ترى العالم في إطاره الواسع وتداخله في فترة بلغ فيها التطور عصر التدويل. فالقراءة يجب أن تكون منسجمة مع نسبة التطور العالمي وإلا سقطت في بحر من التأويلات التي لا تعرف كيف تدخل الموضوع ولا كيف تخرج منه.

العالم تطور وهذه بديهية اتفق عليها معظم كتّاب «الفكر العربي المعاصر» إلا ان كتابات المفكرين العرب ظلت أسيرة وعي محكوم بنسبة متدنية من التطور. فالفكر العربي المعاصر اشتغل كثيرا على المفاهيم، ولم يطور أدوات التفكير ويبتكر المناهج التي تتناسب مع درجات التقدم العالمي. وهذا ما أدى إلى نمو نوع من التعارض بين المفاهيم المتقدمة التي يتطرق إليها المفكر العربي وبين أدوات التحليل (منهج التفكير) الذي يستخدمه المفكر لقراءة تلك المفاهيم. هذا التفاوت بين الفكرة وأدوات البحث جرد الفكر العربي من قدراته على التكيف مع مناهج العصر، وتحول إلى تابع يردد ما يقال له أو يسمعه أو ما يقرأ عنه. فالمفكر العربي المعاصر لم يكن معاصرا في منهج تفكيره حتى حين كان يتناول في مقالاته المفاهيم المعاصرة.

لاشك في أن هناك استثناءات ولكن تلك الاستثناءات لم تتحول إلى قاعدة عامة، كما انها لم تنجح في تغيير نمط التفكير السائد الذي انقسم إلى مدرستين: الأولى معجبة بالغرب وتريد تقليده واللحاق به. والثانية متخوفة من الغرب وتريد الابتعاد عنه وقطع العلاقات معه.

من المدرستين تفرعت الكثير من الاتجاهات ولكنها كانت في النهاية تعود لتصب في إطار من الإطارين: الاعجاب أو الخوف.

إلا ان الأزمة (أزمة الواقع العربي) ليست هنا، فهي أعقد بكثير من «الاعجاب» و«الخوف» وهي أساسا أسست لما سُمي لاحقا بأزمة الفكر العربي. فأزمة الفكر هي نتاج أزمة الواقع. والواقع العربي يشير إلى أن كل الطرق أدت إلى المصب نفسه وهو المزيد من تأزيم الأمة. فالواقع بشقيه (المعجب والمتخوف) كان دائما على صلة بالغرب وذلك لأسباب موضوعية وليست ذاتية.

إذا القراءة الموضوعية لتلك المفاهيم المجردة يجب أن تُموضع في مكانها الصحيح ومن ثم ينظر إليها من زاوية التاريخ (الزمن). فهذه النظرة الموضوعية المفترضة تسهم في التقليل من جلد الذات وتؤصل المصطلحات وتعطي للمفردات معناها المحدد من دون اسقاط واقع مغاير على واقع آخر.

لابد إذا من الاعتراف بوجود خلل ما في بنية الفكر العربي المعاصر وهذا الخلل تأسس بسبب الضعف في التقاط المفارقات التاريخية بين تطورين انتهت بالعالم إلى نهوض هوة بين العرب والغرب. فالخلل إذا ليس عقليا بقدر ما هو يعكس ذاك الاختلال التاريخي بين واقعين.

الاعتراف بالآخر والإقرار بأن الآخر متقدم الآن ليس خطأ بل هو بداية التفكير في الإجابة عن سؤال «كيف تقدم الغرب؟». والإجابة عن سؤال «كيف» تساعد على التقدم النظري ومحاولة تطوير الفكرة/ السؤال «لماذا تقدمت أوروبا وتخلف العرب؟».

المسألة تبدأ إذا من «كيف» إلى «لماذا» وهي بداية تطرح المعنى الحقيقي لمفردة «التقدم» ومقابلها «التخلف». فهل التقدم مطلق في أبعاده الراهنة، وهل التخلف مسألة نهائية، أم أن هناك صيرورة تاريخية تنقل هذا إلى ذاك وذاك إلى هذا؟ وهل يا ترى في عصر العولمة (التدويل) بات بالإمكان الانتقال من حال إلى آخر من دون ضوابط عالمية وتدخلات خارجية لم تكن موجودة، أو أنها لم تكن تحصل بهذا الشكل السهل والسريع كما نشهد الآن من حالات اقتحام دولية تعطل الداخل وتعرقل تطوره ونموه.

المسألة إذا معقدة، وخصوصا في عصر الجيوش المتنقلة (دبلوماسية البوارج) وقوافل الشركات المتعددة الجنسية، والتنافس الدولي على اقتصاد السوق، وعولمة المصارف وانتقال الأموال، واحتكار المعلومات والسيطرة على الفضاء الخارجي (الأقمار الاصطناعية) وشبكة الاتصالات وغيرها من أصول وفروع.

مسألة التقدم والتخلف إذا لا يمكن قراءة عناصرها الذاتية من خارج هذا الفضاء الدولي وضغوطه الخارجية (التدخلية) في صوغ وسائل التقدم وأدوات التكيف مع عالم متسارع في خطواته ومواصلاته.

المسألة معقدة وهي أساسا مركبة من مجموعة عناصر موضوعية تدفع أحيانا وتعطل في أحيان أخرى مسيرة التقدم. فالتقدم له شروطه الذاتية إلا أن الأساس فيه هي تلك الشروط الموضوعية التي باتت تشكل حواجز ضغط على شعوب وحضارات وثقافات كثيرة.

تعقيد المسألة لا يعني عدم البحث فيها أو تجنب وعي شروطها الموضوعية أو التخلي عنها وتركها لأصحاب الشأن. التعقيد يعني المزيد من الضغط من أجل محاولة تركيب وعي تاريخي يلتقط تلك المفارقات (الضرورة والحاجات) التي أسست تلك الهوة بين الغرب والعرب. وقبل الدخول في تفصيلات العناوين لابد من التوضيح بأن مسألتي «التقدم» و«التخلف» مرتبطتان بالزمن وهما غير مطلقتين وغير نهائيتين. فالمسألة دائما نسبية وهي أيضا لا تعني أن تقدم أحد الأطراف يشير إلى أن الأطراف الأخرى غير متقدمة (أو متخلفة). فتقدم طرف ليس بالضرورة يعني دائما تخلف الطرف الآخر. أحيانا المسألة تكون مركبة. فالتقدم في جهة يرافقه أيضا بعض التقدم في الجهة المقابلة. الطرفان يتقدمان، لكن تقدم أحدهما أسرع من الآخر وأكثر تركزا.

هذه المسألة المفهومية تصحح أيضا فكرة مغلوطة عن التاريخ أخذها بعض الكتّاب العرب (القوميين) وتداولوها وكأنها من ثوابت الزمن، وهي أن بعض المؤرخين يظنون وهما أن العرب حين كانوا في موقع المتقدم عالميا كان غيرهم في موقع المتخلف. وهذه النظرة خاطئة وهي أيضا نسبية وغير دقيقة تاريخيا. فالعرب قبل أكثر من 500 سنة كانوا أكثر تقدما من غيرهم (هذا صحيح) ولكنهم ليسوا وحدهم المتقدمين في العالم. فغيرهم كان في وضع متقدم ولكن هذا الغير كان أقل تقدما من العرب. وهذه هي حال العرب الآن فهم نسبيا في موقع متقدم ولكنهم أقل تقدما من غيرهم بدرجات. وهذا في الغالب يعود إلى أسباب موضوعية (زمنية) قلصت درجات التقدم عند العرب أو جعلت التقدم العربي يحافظ على وتيرته العادية في الصيرورة الزمنية في وقت كان الغرب يتقدم بسرعة وبوتيرة غير عادية.

تقدم الغرب السريع أدى إلى تجاوز وتيرة التقدم العربي العادي والهادئ وانتهى الأمر إلى افتراق الطرفين وظهور هوة بين العالمين. هذا التقدم السريع له أسبابه الموضوعية، وحين تدرس تلك الأسباب يمكن اكتشاف الجواب عن سؤال: لماذا؟

مسألة «التقدم» و«التخلف» بحاجة إلى تدقيق وإعادة قراءة جوانبها الموضوعية (الزمنية) حتى تلتقط تلك المفارقات الزمنية التي أدت إلى نهوض العالم الأوروبي وتراجع العالم العربي، وتعطل إمكانات اللحاق بركب الزمن وتطور آلياته وعدم قدرة العرب (المسلمين) على التكيف مع عالم معاصر انتقل بسرعة من دورة الحضارات المنفصلة (المستقلة) إلى دورة حضارية جديدة مندفعة بعناصر قوة جاءت من شبكة من الاتصالات والمواصلات العالمية.

عصر التدويل يفرض على المفكرين العرب البحث عن أدوات جديدة للتحليل وإعادة التفكير في الكثير من المفاهيم السابقة التي صيغت أجوبتها تحت الضغط، فعجزت عن تقديم ردود صحيحة على عالم مختلف عن الماضي

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 693 - الخميس 29 يوليو 2004م الموافق 11 جمادى الآخرة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً