العدد 694 - الجمعة 30 يوليو 2004م الموافق 12 جمادى الآخرة 1425هـ

أزمة دارفور... أو لعبة "التوازنات الجهوية والعرقية"

فصل آخر من مأساة السودان

محمد الاسباط comments [at] alwasatnews.com

ما يدور في اقليم دارفور غرب السودان من معارك ضارية وأعمال عنف عرقي ألبسته الحكومة السودانية ثوب التمرد، ووصفه المجتمع الدولي بـ "أسوأ كارثة إنسانية في العالم". واحتمالات التدخل الدولي عسكريا لوضع حد للمأساة الإنسانية. وتواصل عمليات القتل والنهب وما صاحبها من نزوح كتبت فصلا آخر في "مأساة الحريق السودانية" التي أفزعت الكثير من الحريصين على سمة السودان الفارقة: التنوع العرقي والثقافي والديني والتلاقح الذي نجم عن هذا التنوع، ونتجت عنه الشخصية السودانية الراهنة، ولاسيما ان المنطقة التي شهدت الصراع مشهود لها بالهدوء والتسامح والسلم الأهلي عبر تاريخها الطويل. بل في ظل الحروب الأهلية والقبلية التي عرفها السودان تاريخيا ظلت تلك المنطقة مثار إعجاب الكثير كنموذج للسلم الأهلي، ونتاج صحي للتلاقح العرقي والثقافي. والآن تشهد دارفور سباقا لافتا مع الزمن لتفادي ما هو أسوأ. إذ يتعرض سكان الإقليم، الذي تماثل مساحته مساحة فرنسا، ويقارب عدد سكانه السبعة ملايين نسمة، لأسوأ أزمة إنسانية تهدد حياة نحو مليونين بالموت جوعا إن لم تصل المساعدات في اسرع وقت ممكن، والموت يتهدد أيضا نحو مليون نازح محاصرين بين جحيم قوات الجنجويد، ونار الجيشين السوداني والتشادي. واحتمالات الموت جوعا أو بردا واردة لأن موسم الأمطار على الأبواب. فيما يعيش النازحون في خيام تعجز عن مقاومة الريح ناهيك عن امطار استوائية بالغة القصوة. وأية قراءة موضوعية لحوادث دارفور تقتضي تقصي الجذور التاريخية لهذه الأزمة التي أفصحت عن فقر آليات الحكومة السودانية في إدارة لعبة التوازنات السياسية عندما لعبت بنار التوازنات الجهوية "المناطقية" والعرقية، الأمر الذي كشف قلة حيلها حيال إدارة الأزمة، حين انفجر الفضاء الاعلامي بأخبار المأساة وأهوالها. ذلك لأن نار الجهوية والقبلية عندما تندلع تحرق الجميع ويكون الوطن كله في مهب الريح كما هو الحال الآن في ظل أزمة دار فور.

جذور الأزمة

وتعود جذور الأزمة إلى صراع الرعاة "العرب الرحل" والمزارعين قبائل الزرقة من الافارقة على موارد شحيحة جدا بسبب سياسات التنمية العرجاء التي كانت ومازالت تنتهجها الحكومات السودانية منذ فجر الدولة الوطنية التي أعقبت استقلال البلاد في العام 6591 وحتى عهد حكومة الرئيس عمر البشير. وعادة ما يهاجم الرعاة المزارع قبل اكتمال الحصاد وتتقد بذلك شرارة الصراع، وتندلع أعمال العنف، وتتوالى، هذا هو السبب المباشر، غير أن الخلفية التي تأسست عليها الأزمة أتت عبر التغييرات الإدارية والهيكلية "البنيوية" التي نتجت عن إجراءات حكومية باشرها الكثيرون من حكام ولايات اقليم دارفور في عهد حكومة البشير التي قلصت من سلطات الحكام التقليدين للقبائل الافريقية في المنطقة من الفور والمساليت "أصحاب الأرض الأصليون والمقيمون فيها منذ عشرات السنوات" ومنحها لعدد من بطون القبائل العربية الرحل الذين يعتبرون ضيوفا على هؤلاء السلاطين والأمراء والشيوخ المشهود له بالحكمة والتسامح. وعندما صارت تلك السلطات أمرا واقعا طالب أبناء الإقليم الأصليون ضيوفهم بالبحث عن ارض أخرى خارج ديارهم ليمارسوا عليها السلطات التي منحها إليهم ممثلو السلطات الحكومية. والظاهر في الأزمة أن أسباب الصراع تعود إلى السعي إلى اقتسام موارد شحيحة وغير متجددة ولم تتعامل معها الحكومات الوطنية السودانية بالقدر الذي تستحقه من الدراسة التي تتطلبها ضرورات التنمية المتوازنة. بل على العكس من ذلك تعاملت معها الحكومات السودانية المتعاقبة حديثا كغنيمة للأخذ من دون عطاء، وهذا السعي يؤشر إلى خلل بالغ في التخطيط الاقتصادي والإدارة والمعرفة بإمكانات البلاد للعمل على تطويرها. فعلى سبيل المثال يمتلك السودان نحو 021 مليون رأس من الثروة الحيوانية يتركز أكثر من نصفها في غرب البلاد "دار فور وكردفان" فيما لا تغطي المراعي - أكثر من 59 في المئة منها طبيعية - سوى حاجة 02 مليون رأس فقط، على رغم أن الثروة الحيوانية تسهم بنسبة تتجاوز الــ 83 في المئة من صادرات البلاد، بينما لا تنفق الدولة على الأعلاف والرعاية البيطرية والمياه والأبحاث إلا فتات الفتات. ليس هذا فحسب، بل ما هو أكثر منه مأسوية يتمثل في محاولات الحكومة إعادة بناء الهيكل البنيوي للإدارة الأهلية "المحلية". علما أن إعادة البناء تلك لم تراع ابسط شروطها وهي المعرفة بتعقيدات المنطقة الإثنية والثقافية وظروف المنطقة التاريخية. إذ كيف تسلب سلطات من سلطان ظل يحكم منطقة ما منذ ما يزيد على الــ 021 عاما - مثل تقليص سلطات سلطان المساليت في العام 9991م - منذ أن كانت منطقته دولة قائمة بذاتها إلى أن ارتضى أن يكون جزءا من السودان طواعية؟ يحدث ذلك من دون وضع الاحتمالات المتوقعة للانفجارات المحتملة في الحسبان. وتقتضي الأمانة عند طرح قضايا دار فور للبحث أن نعيد طرح أهم المحطات في تاريخ المنطقة التي تتكون أصلا من سلطنتين تمثلان قلب إفريقيا المسلم منذ أكثر من قرنين من الزمان. الأولى في سلطنة الفور التي كانت دولة قائمة بذاتها حتى العام 6191 حين ألحقت بدولة السودان. وأشهر القبائل التي تسكنها الفور "القبيلة الحاكمة" اضافة إلى القبائل الافريقية الزغاوة، والبرتي وهناك الرزيقات أكبر المجموعات العربية في الولاية فضلا عن "التعايشه" و"بني هلبا" والهبانية والمعاليا وغيرها. والثانية، سلطنة المساليت وتشمل ولاية غرب دارفور الحالية كلها وجزءا من ولايتي جنوب وشمال دارفور وكانت دولة قائمة بذاتها تقع بين خطي عرض 22ــ 32 شمالا، في أقصى غرب السودان على مساحة تمتد نحو 07 ألف كيلومتر، تحدها من الغرب جمهورية تشاد ومن الشرق والشمال سلطنة دارفور ومن الجنوب جمهورية إفريقيا الوسطى، وأسسها الفكي "الفقير" إسماعيل في العام .0781 ويشكل المساليت "القبيلة الحاكمة" نحو 08 في المئة من ساكنيها، إضافة إلى القمر والتاما والأرتقا وكلها قبائل افريقية، فضلا عن بعض البطون العربية، وكل سكانها مسلمون. انضمت سلطنة المساليت إلى دولة السودان "الحالية" طواعية، بعد 9 سنوات على استشهاد اشهر سلاطينها السلطان تاج الدين "قاهر الفرنسيين" في معركة دورتي في العام 0191 وهي المعركة التي قتل فيها جيش المساليت قائد القوات الفرنسية في إفريقيا الاستوائية الكولونيل مول. بعد ذلك انضمت سلطنة المساليت إلى دولة السودان وفق اتفاق قلاني الذي وقعه السلطان بحر الدين "أندوكة" مع دولتي الاستعمار انجلترا وفرنسا. ويحق للمساليت، وفق الاتفاق، الانضمام إلى دولة السودان، أو تقرير مصيرهم مع من يشاءون متى ما شاءوا، وهذه الوثيقة مازالت مودعة لدى الكثير من المنظمات الإقليمية والدولية. وللتاريخ فإن سلاطين المساليت خاضوا معارك ضارية كتبت صفحة ناصعة من تاريخ النضال الوطني السوداني ضد الاستعمار، وكان الجنود المساليت ينشدون للحماسة إبان معارك السلطان تاج الدين مع الفرنسيين: "تاج الدين/ سيفه سنين/ يجاهد المشركين/ لحدي ما المهدي يبين". ومن أشهر أبناء المساليت شاعر السودان البارز محمد مفتاح الفيتوري. ولسلطان مساليت قصر منيف في مدينة الجنينة شيد في العام ،9491 وزاره عدد من الملوك والرؤساء والزعماء من داخل السودان وخارجه، في طليعتهم ملكة بريطانيا اليزابيث، وعاهل الأردن الراحل الملك حسين، ومؤسس حزب الأمة وأحد قادة الاستقلال الوطني السوداني الإمام عبدالرحمن المهدي، ومرشد طائفة الختمية "القاعدة الدينية للحزب الاتحادي الديمقراطي" علي الميرغني، ورؤساء السودان السابقون إبراهيم عبود، وجعفر نميري، والصادق المهدي والحالي عمر البشير، وصور هؤلاء مازالت تزين قصر سلطان المساليت الجميل في مدينة الجنينة. وتعد أزمة دار فور علامة فارقة في صراعات السودان الحديث التي تؤشر إلى احتمالات تفتته بسبب هشاشة بنيته التي تفتقر إلى آليات تمتن بنيته المركبة من عناصر صارخة التنوع عرقيا وثقافيا... وحتى دينيا. هذا التنوع يتطلب إعادة قراءة مكونات هذه البنية المعقدة وبحث العناصر التي توحد المجموعات المكونة لهذه الشعوب ومن ثم التخطيط بناء على ذلك لتنمية متوازنة، وبناء نظام حكم تعددي راشد يحرسه قضاء مستقل وصحافة حرة مع اتاحة الفرص لمؤسسات المجتمع الأهلية لتنمو بصورة طبيعية، وفقا لتطور علاقات الإنتاج والناس. وبقدر ما يمكن للتنوع العرقي والثقافي والديني أن يكون عامل ثراء وإغناء يمكن أيضا أن يكون شرارة للحريق الكامل. إن هذه الحوادث شكلت نواة لتفتيت هذا البلد الذي كان يمكن أن يكون عصارة لأفضل ما لدى إفريقيا وما لدى العرب لكنه أضحى أسوأ نموذج للتعايش العرقي والثقافي في العالم

العدد 694 - الجمعة 30 يوليو 2004م الموافق 12 جمادى الآخرة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً