العدد 695 - السبت 31 يوليو 2004م الموافق 13 جمادى الآخرة 1425هـ

«ملك» العراق... والملح الفاسد

محمد صادق الحسيني comments [at] alwasatnews.com

تقول الحكمة العراقية القديمة: «إذا لم ينتبه ملك إلى الحق فسيقع شعبه في الفوضى. وسيجتاح بلده. إذا لم ينتبه ملك إلى حق بلده، فإن ايا، ملك المصائر الالهي، سيغير مصيره الخاص، وسيدفعه دوماً على طريق التعاسة. إذا لم ينتبه إلى حكمه فستكون ايامه قصيرة. إذا لم ينتبه إلى مستشاره، فستثور بلاده عليه. إذا اصغى إلى نذل فستتغير ذهنية بلاده، إذا انتبه إلى رسالة ايا، فإن الالهة العظام سيقودونه دوماً في المشورة وسبل الانصاف».

والنص مأخوذ من كتاب حسن فاضل جواد «الاخلاق في الفكر العراقي القديم». ويرجح أن النص كتب في عهد الملك سنحاريب (704 - 681 ق. م) ولكن المعاني التي وردت فيه تجعلنا نتخذ منه مثالاً لصورة الحاكم العادل المطلوب في الفكر العراقي من جهة، ودرس عبرة أيضاً عن نهج الحاكم الاهوج الذي يمكن أن يزج شعبه في متاهات هو وشعبه في غنى عنها لو سار على الطريق القويم واتبع حكمة الالهة.

التصريحات المتخبطة والمتهورة لعدد من وزراء حكومة إياد علاوي ابتداء من وزير خارجيته مروراً بوزير داخليته وصولاً إلى وزير دفاعه (المنصبون جميعاً بإرادة قوة عساكر الاحتلال) بشأن حجم ومدى مسئولية دول الجوار عما يجري في العراق من دورة عنف دموية قاسية ما هي في الواقع الا اصرار اعمى على أحياء ثقافة الحاكم التعيس المنبوذ في الاخلاق العراقية القديمة والحديثة منذ عهد الملك سنحاريب حتى يومنا. وهي امتداد بقوة الدفع التي لاتزال تعمل عند البعض اما بفعل «الثقافة الصدامية» التي ينتمون إليها عن وعي أو عن جهل أو بفعل «ثقافة الكاوبوي» التي صدرتها قوات الاحتلال الأميركية إلى أرض الرافدين الطاهرة منذ ما يزيد على العام بفعل المحنة التي نرجو أن تزول عن العراق بسرعة إن شاء الله.

ويحضرني بقوة مثل إيراني شهير يصلح لإيراده في حال المفارقة الحاصلة خلال استبدال الثقافة الصدامية التي يفترض أن تكون اندثرت بثقافة الكاوبوي الأميركية التي يبدو أنها انتشرت في أروقة الحكم العراقي الجديد. والمثل يقول: «كل ما هو معرض للفساد والعفن يتم تطهيره بالملح، لكن الله الله، إذا ما تعرض الملح نفسه للفساد». والحقيقة المرة التي يعيشها العالم وعلى الهواء مباشرة منذ مارس/ آذار العام 2003 حتى الآن هي استخدام الملح الفاسد في عملية تطهير العراق ممن كان يعاني منه من فساد متمثل في دكتاتورية وطغيان صدام حسين، وانتشار ثقافته الرعناء في التعامل مع المعارضة وافراد الشعب لديه ومع جيرانه ومع العالم. وهو ما يتكرر بشكل «أكثر مأسوية» في ظل احتلال بغيض وضيعة بغيضة يمكن اعتبارها اليوم بحق الوجه الآخر للثقافة الصدامية التي كنا نتأمل أن تنتهي وتزول بغير الطريقة التي استخدم فيها الملح الفاسد، حتى لا تتكرر مآس وحروب جديدة حمقاء وعبثية لا سمح الله.

لست هنا في مقام الدفاع عما يحصل من رد فعل «طبيعي» على همجية الغزو والعدوان والاحتلال سواء ظهر بشكل مقاومة مسلحة مشروعة ضد قوات الاحتلال وهو ما تعترف وتقر به كل الشرائع السماوية والأرضية إلا الذين في قلوبهم مرض، أو ما ظهر منها بشكل أعمال عنف عبثية ضد المواطنين والابرياء من الناس العاديين، ولكن ما اريد قوله وتأكيده هنا هو أن الحالين والفعلين هو من فعل الاحتلال وهمجيته وممارسته المدمرة للنفس والروح فضلاً عن الدولة والوطن وكل مقدرات شعب عريق مثل العراق العظيم بحجة إزالة طاغية و«تحرير» شعب!

وفيما الخديعة الكبرى والفضيحة المهزلة باتت مدونة في كتب فضلاً عن مقالات يومية يكتبها أميركيون وغربيون كثر منصفون عن حقيقة غزو العراق، لايزال البعض من منتفعي الاحتلال والمستوزرين عنده يصرون على استغباء واستحمار الذات والآخرين من جيرانهم. وحتى تكتمل دائرة الاستغباءوالاستحمار تراهم وقد أخذتهم العزة بالإثم وهم يوزعون التهم والشتائم والسباب والتحذيرات إلى جيرانهم معتبرين كل ما يعاني العراق منه انما يأتي بسبب التسلل عبر الحدود أو خوض الحروب بالوكالة بين عواصم الجوار وعاصمة دولة الاحتلال الكبرى.

وأياً يكن حجم الحقيقة المتوافرة في مثل هذه المقولات والادعاءات فإن السمك لا يعيش إلا في الماء الذي يوفر له حياته الطبيعية. أما التحجج بأسطورة الزرقاوي مرة وخطر إيران مرة أخرى، وخطر «القاعدة» مرة ثالثة فما هو إلا نوع من الهروب إلى الامام وتكرار لأخطاء حكام فاشلين ينبغي أن يصبحوا عبرة لمن يريد أن يعتبر، وليس مثلاً أعلى في الاستحمار والاستغباء للذات وللآخرين. فلا شاه إيران استطاع أن يتخلص من حتمية الثورة الشعبية التي كانت تحيط به من كل جانب انتبه لها في اللحظة الأخيرة من حكمه بعد فوات الاوان، من خلال اتهامها بالعمالة للأجنبي أو وصفها بصنيعة الآخرين. ولا صدام حسين نجا من حكم ملك المصائر الالهي (ايا) على رغم كل محاولاته في تشويه المعارضين والرافضين لحكمه ونهجه الارعن. ولا أنتم في حكومة علاوي العتيده بقادرين على تجاوز حقيقة كون المشكلة الاساسية والكبرى عراقية ثم عراقية ووطنية واصيلة تنبع من عمق العراق الضاربة جذوره في عمق الحضارة الإنسانية الذي يرفض الذل والخنوع وإن أمهل البعض وقتاً فإنه لن يهمل كما فعل مع من هم من قبلكم.

نعم، يا معالي الوزير المفدى! أو المدلل في العهدين، فالعراق وكما تقول «عراق عريق يحيط به سياج منيع» واضيف لك بيتاً من الشعر، فإن هذا السياج المنيع لا يتكون من الدول العربية لوحدها بل ومجموع الدول الإسلامية بل وأمم وشعوب الأرض كافة، وكل احرار العالم إن شاء الله، بمن فيهم المنصفون من الأميركيين الرافضين للخديعة الكبرى. ولسيتمكن عما قريب من كسر قيود الاحتلال والعدوان والظلم المضاعف الذي يرتكب بحقه بفضل وعي ابنائه البررة وعقلهم وحكمتهم ومقاومتهم الباسلة بأشكالها كافة وأما جدار الفتنة والتعصب الاعمى سواء كان طائفيا أو عرقيا أو قوميا أو سياسيا - ثقافيا فستظل شعوب المنطقة تهدم فيه ما تمكنت سواعدها إن شاء الله إلى أن تزيله تماماً أو تفتح فيه فتحة للنور.

وأما بخصوص الادعاء بأن الجيران اخترقوا كل شيء حتى وزارتك، فإنني أحيلك إلى بيت معبر للشاعر الإيراني الكبير سعدي الشيرازي يقول فيه:

إذا ما عكست المرآة قبح وجهك

أصلح وجهك لا تكسر المرآة

والحر تكفيه الاشارة

إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"

العدد 695 - السبت 31 يوليو 2004م الموافق 13 جمادى الآخرة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً