العدد 702 - السبت 07 أغسطس 2004م الموافق 20 جمادى الآخرة 1425هـ

وداعاً عبدالله فخرو...

«لا أغلال بعد اليوم»

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

... ورحل أحد الرموز الوطنية الشامخة. رحل الشيخ الجليل عبدالله علي جاسم فخرو بعد معاناة طويلة مع المرض وصمود طويل في ميدان السياسة. رحل وترك في قلوب الشعب ذكرى مجلّلة بالتقدير والإكبار، فهو من الرجال القلائل الذين يتركون في ضمائر الشعوب تلك الهالة من الاحترام، في وقت لم تعتد فيه هذه الشعوب على الجأر بالشكوى والاحتجاج إلا وراء الجدران وتحت أسقف المنازل المغلقة.

وفي وقتٍ كان يتحاشى فيه الكثيرون الكلام خوفاً من دفع كلفة الكلمات الصادقة، كان فخرو لا يتردد في مواجهة المتهمين بالفساد والظلم، والتشهير بهم وانتقادهم على رؤوس الأشهاد.

ولأن الرجال معادن مثل معادن الذهب والفضة، فان الكثيرين يغيّرهم الزمان وتدخل عليهم عوامل التعرية والتحلل والتغيير. وعبر المسيرة الوطنية الطويلة التي ميزت تاريخ شعب البحرين، هناك من بدّل جلده، وهناك من آثر الصمت يوم كان الصمت يعني الرخاء وسعة العيش. وهناك من استبدل النضال المقدّس بقصائد المديح حتى برع في فنون النفاق. فخرو من القلائل الذين لم يتغيروا، دخل السجن أيام الانجليز قبل أربعين عاماً مجبراً، وظلّ يدخله على فترات في زمن الاستقلال طوعاً، في سبيل صلاح الوطن وإنصاف المواطن، وظلّ الذهب الأصلي عصيّاً على التبخر أو الذوبان.

في مطلع التسعينات دخل السجن، وكانت السجون غاصّة حتى الثمالة بالمطالبين بالتغييرات السياسية وإدخال الإصلاحات، وكانت بعض الأبواق تسبهم وتشتمهم، وتكيل لهم التهم الكفيلة بقطع الرقاب، من التخريب إلى خيانة الوطن والعياذ بالله!

كان فخرو واحداً من تلك المجاميع الكبيرة، التي تجد فيها كل الفئات العمرية، من السادسة عشرة حتى السبعين، ومن العامل والعاطل عن العمل إلى رجل الدين والمهندس والمدرس والطبيب. وهناك عمدوا إلى عزله عن السجناء السياسيين، فوضعوه مع السجناء الجنائيين في العنبر الشرقي من سجن القلعة الشهير، زيادة في الضغط عليه وإيذائه. ولكي تعرفوا معنى تلك الغربة المضاعفة يمكنكم أن تتخيلوا وجود السجين السياسي المخضرم بين السرّاق ومدمني المخدّرات واللوطيين والقتلة، وخصوصاً مع ما كان يعانيه من أمراض في تلك السن المتقدمة.

ولأن الوصول إلى عنبر الجنائيين يمر أمام عنبر السياسيين، فانه كان يحرص على مبادلة أصحابه السياسيين السلام وهو يمر بتلك القامة المديدة متهادياً في مشيته. وكان عندما يمر بعمال النظافة يردد مداعباً ما يشبه الانشودة الوطنية التي آمن والتزم بها حتى النفس الأخير: «النظافة من الايمان، يسقط يسقط الطغيان».

وعندما تقرأ سيرته الذاتية، سيحزن قلبك وتحس بالفجيعة. فهذا الرجل الوطني الشريف، صاحب اللحية البيضاء الناصعة كالثلج، دخل السجن 12 مرة خلال تسعة أعوام، في الفترة ما بين العام 1991 و1999، فحلّ ضيفاً على سجون أمن الدولة: من الحد والمحرق إلى القلعة والنعيم والحورة والحوض الجاف أيام المطالبة الشعبية بالإصلاح.

الرجل دفع الثمن غالياً من راحته وحريته وصحته، وحاولت السياسة ان تتلاعب بقضيته، ولم تتورع عن تشويه سمعته، وأدخل مستشفى الامراض النفسية لوصمه بالجنون، وتمكن محاموه حينئذٍ من إصدار قرار من المحكمة للإفراج عنه بكفالة، ولكن أعيد اعتقاله بعد ثلاثة ايام. وظل يعتقل ويطلق سراحه ثم يعاد إلى السجن الاحتياطي، دون ذنب غير المطالبة بالإصلاح في زمن كانت كلمة الإصلاح من الممنوعات والمحرمات.

ابتدأ فخرو مسيرته الحافلة بالاعتقالات بسبب مشاركته في مظاهرة ضد الانجليز الذين كانوا يحتلون البلد، وختمها باعتقال لمشاركته في مظاهرة ضد العدوان الأميركي على العراق. وما بينهما ظل صوتاً من الاصوات الشريفة التي كافحت طويلاً لإعلاء حكم القانون، ووضع حد لسياسة التمييز والامتيازات، لكي يعيش الجميع سواسية تحت سقف وطن واحد عادل لا يفرق بين بنيه. ألم أقل لكم إن الذهب الأصلي لا يتغيّر؟

واليوم أقف أمام جثمانه المسجى، لا أجد خيراً من بيت شعري مؤثر اقتطفه من قصيدة جميلة للشريف الرضي، كان يندب فيها حاله مع السلاطين، حيث تضيع الحقوق وتسبى الامة، وددت ان أكتبها على قبرك يا شيخنا الكبير:

قد آن للقلب الــــــــــذي هدّه طول معاناة الأسى أن يُراح

فنم قرير العين، فلا معاناة بعد اليوم ولا أغلال تطاردك، بعد أن وفدت على ربٍ رحيم، وعسى أن يصلح حال الوطن من بعدك

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 702 - السبت 07 أغسطس 2004م الموافق 20 جمادى الآخرة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً