العدد 703 - الأحد 08 أغسطس 2004م الموافق 21 جمادى الآخرة 1425هـ

«لن أكف عن إيذاء بلادي»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

«لن نتوقف عن التفكير في إيذاء بلادنا». وفي قول آخر «إنهم لا يتوقفون أبداً عن التفكير بطرق لإيذاء بلادنا وشعبنا، ولا نحن أيضاً». وعن مصدر آخر قال: «لن نكف عن استكشاف سبل لإلحاق الضرر بالولايات المتحدة». هذا القول ليس حكمة صينية ولا فلسفة هندية. انه المنطق حين ينزلق مقلوباً على لسان الرئيس الأميركي جورج بوش.

في علم النفس تحدث العلماء والاساتذة عن هذه المادة واختلفوا على تحليلها وتفسيرها. وعن معنى «الهفوة» أو «زلة اللسان»، كتب سيغموند فرويد الكثير وانتهى إلى خلاصة تؤكد أن الهفوة هي «الحقيقة» المقموعة. وزلة اللسان هي التعبير الصحيح عن فكرة يتكلم بها «العقل الباطني» أو «اللاوعي» ويخشى قولها. فالوعي يرتب الكلام ولكن أحياناً يتدخل اللاوعي (العقل الباطن) ويقول الحقيقة ويكشف خفايا كلام المتكلم. هل ينطبق هذا التحليل النفسي (الفرويدي) على الانزلاق اللغوي الذي وقع فيه الرئيس الأميركي؟ الأرجح أن المنطق يميل إلى قول «نعم». والمؤشرات كلها تدل على أجواء ضاغطة أملت على بوش فعل ما يفعله وقول ما يقوله، ولكنه ليس بالضرورة أن يكون موافقاً أو مقتنعاً بما يقوله ويفعله. فالرئيس الأميركي يعرف أن هناك الكثير من الخداع والأكاذيب التي قيلت في عهده منذ انتخابه المشكوك في صحته إلى اللحظة التي تفوّه فيها بهذه «الحكمة» الاستثنائية.

لنتفحص المناسبة التي انزلق خلالها لسان بوش. ومنها نستطيع أن نحكم على تلك الكوارث التي جلبتها إدارته على سمعة الولايات المتحدة وصداقاتها وموقعها الدولي... وربما مستقبلها في قيادة العالم.

المناسبة كانت حفل توقيع الرئيس أعلى موازنة دفاع في تاريخ الولايات المتحدة. والمكان هو وزارة الدفاع (البنتاغون). والحضور شمل كبار قادة الجيش وعلى رأسهم زعيم «كتلة الشر» وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائبه الشرير بول وولفوفيتز، وكذلك رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال ريتشارد مايرز.

في مثل هذا المكان وتحت ضغوط حضور هذا الكم من رموز الشر وقادة تيار «المحافظين الجدد» ألقى الرئيس خطابه لتوقيع موازنة خيالية بلغت 417 مليار دولار سيقتطع منها 25 ملياراً لتذهب إلى تمويل استكمال عمليات «تحرير» أو وهذا هو الصحيح (ليس هفوة أو زلة لسان) استكمال «تدمير» العراق وأفغانستان.

الرئيس بوش إذاً يتحدث في «البنتاغون» أمام رموز «كتلة الشر» لتوقيع أضخم موازنة دفاع في تاريخ أميركا. فماذا قال: «لن نتوقف عن التفكير في إيذاء بلادنا» أو «لن نكف عن استكشاف سبل لإلحاق الضرر بالولايات المتحدة» أو «انهم لا يتوقفون أبداً عن التفكير بطرق لإيذاء بلادنا وشعبنا، ولا نحن أيضاً».

كل «الزلات» و«الهفوات» تصب في طاحونة «اللاوعي» بحسب فرويد. وهذا اللاوعي هو في حقيقة الأمر الكلام الصحيح الذي يريد أن يقوله لرموز الشر أمامه ولكنه لا يستطيع ويلجأ دائماً إلى تزوير الحقائق وتبطين المعلومات وتغليفها وتلفيقها. ولكن حين يطفح كيل الوعي بالأكاذيب يتدخل اللاوعي ويصحح الكلام، فينزلق على لسان قائله ويخرج منه من غير قصد ومن دون وعي. وهذا ما يطلق عليه تحبباً أو تخفيفاً للفضيحة «زلة لسان» أو «هفوة».

فرويد في مدرسته (التحليل النفسي) يرفض المجاملة ولا يقبل بأقوال العامة... فهو بكل بساطة يرى أن «زلة اللسان» أو «الهفوة» هي الحقيقة المقموعة أو الكلام الذي يريد صاحبه قوله ولا يستطيع البوح به لأسباب كثيرة. وحين تخونه الذاكرة أو المنطق أو الوعي يخرج «اللاوعي» على اللسان، ويتدخل العقل الباطن ليكسر منطق العقل الظاهر فيكشف عن المستور وتقع «الهفوة».

وبناء على مقولة فرويد (تحليله) كيف نفسر هفوة بوش وكيف نقرأ زلة لسانه؟

بوش بكل بساطة غير مقتنع بهذه الموازنة الهائلة للدفاع. وهو، كما يبدو، غير مقتنع بالتبريرات التي يريد تسويقها للناخب الأميركي خلال جولاته الرئاسية التي ستبدأ قريباً. ويبدو بوش، والله أعلم، يفضل أن يقتطع من موازنة الدفاع تلك المليارات التي ستذهب للصناعات العسكرية ولتغذية حروب ضد «مجهولين»، وإعادة توظيفها في الصناعات المدنية أو في مشروعات اقتصادية تقلل من نسبة البطالة المرتفعة أو تقدم مساعدات اجتماعية - صحية لمئات آلاف العائلات المحتاجة إليها في أميركا. بوش، والله أعلم، يفكر ماذا يقول للناخب؟ بوش ورث الرئاسة عن بيل كلينتون في فترة كان الاقتصاد الأميركي يمر في أفضل فتراته، وهناك فائض في الموازنة الفيدرالية للمرة الأولى منذ خمسينات القرن الماضي، وموازنة الدفاع تراجعت إلى 265 ملياراً. كيف يبرر بوش للناخب هذا التراجع في الاقتصاد وتبخر الفائض وتراكم الديون على الموازنة بطريقة لم تعرفها من قبل... في وقت يوقع موازنة دفاعية هي الأعلى في تاريخ الولايات المتحدة. ماذا يقول بوش وكيف يبرر للناخب هذا الإنفاق المهدور على حروب مفتعلة تقودها «كتلة شريرة» من غرف «البنتاغون»... ماذا يقول؟ «اعذروني. لن أكف عن إيذاء بلادي». إنها الحقيقة حين تنزلق على لسان قائلها

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 703 - الأحد 08 أغسطس 2004م الموافق 21 جمادى الآخرة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً