العدد 704 - الإثنين 09 أغسطس 2004م الموافق 22 جمادى الآخرة 1425هـ

اقتصاد الحروب

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في خطابه الوداعي حذر رئيس الولايات المتحدة الجنرال دوايت إيزنهاور من تطور الصناعات العسكرية الأميركية وتركز الاستثمارات في هذا القطاع الخطير. فالرئيس/ الجنرال وهو من قادة الحرب العالمية الثانية ادرك باكراً سلبيات هذا النمو وتأثيره على صنع السياسة الخارجية. فالنمو الانتاجي في قطاع الصناعات العسكرية سيفرض على الدولة سلوك استراتيجية إشعال الحروب لتسويق البضاعة أو تصريفها في ميادين القتال.

تحذير إيزنهاور مضى عليه أكثر من 45 سنة. وخلال تلك الفترة بلغت الصناعات العسكرية الأميركية مراحل متقدمة وغير مسبوقة في التاريخ. فالسياسة الرسمية لم تكترث لخطاب الرئيس الأميركي الذي اختبر الحروب ويعرف معنى وجود ثروات موظفة في قطاع خطير يبحث دائماً عن ساحات لاختبار اسلحته الجديدة. فالخطاب/ التحذير تجاوزته كل الإدارات اللاحقة وسلكت واشنطن سياسة السباق نحو التسلح بذريعة وجود أخطار تهدد المصالح الأميركية في جنوب شرق آسيا وفي أميركا اللاتينية وإفريقيا و«الشرق الأوسط». فالذريعة كانت موجودة لتبرير الإنفاق العسكري واقناع الناخب الأميركي بضرورة زيادته دورياً.

وتحت مظلة الصراع ضد الاتحاد السوفياتي والمخاطر الناجمة عن تفشي الشيوعية وغيرها من أسباب شُكّلت قوة دفع للصناعات العسكرية والتقدم بسرعة لاحتلال الموقع المركزي في سلسلة حلقات الاقتصاد الأميركي. ومع الأيام تضخمت موازنة الدفاع وأصبحت الأعلى قياساً بقطاعات وموازنات أخرى وتحديداً تلك التي تمس مصالح الطبقات الوسطى.

بين خطاب إيزنهاور الوداعي وخطاب جورج بوش الأخير يوم الخميس الماضي في مبنى «البنتاغون» الذي وُقّع في نهايته على أعلى موازنة للدفاع في تاريخ الولايات المتحدة يمكن تعداد عشرات الانقلابات والحروب المباشرة وغير المباشرة التي تورطت فيها واشنطن. فالتحذير الذي أطلقه إيزنهاور قبل أن يترك البيت الأبيض أصاب الكثير من النقاط التي تخوّف الرئيس/ الجنرال من إمكان حدوثها في حال لم توقف الإدارة الأميركية انزلاق اقتصادها نحو «العسكرة» بذريعة التنافس مع الاتحاد السوفياتي في سباق التسلح. فالتضخم في موازنة الدفاع وعسكرة الاقتصاد ونمو قدرات الولايات المتحدة في التقنيات وتوظيفها في الصناعات الحربية سيفرض على أي رئيس مقبل سياسة هجومية، وسيضعه تحت رحمة «البنتاغون» وخطط الجنرالات العسكرية. فالتحذير كان يشير إلى نوع من السيطرة الخفية لأجهزة الأمن على السياسة، ونمو نزعة حربية لا تشبع من المعارك والتوسع وفرض «المثال» الأميركي على شعوب العالم الثالث وربما دول ما يسمى «العالم الحر».

الرئيس إيزنهاور، وهو الجنرال السابق، أدرك باكراً أن نمو القدرات العسكرية سيضغط على إدارات واشنطن وسيدفع رئيس البيت الأبيض إلى توسيع طموحاته في السيطرة وسينقل أميركا من خط الدفاع إلى خط الهجوم تلبية لحاجات الصناعات الحربية التي لن تقبل سلوك نهج تعزيز السلام وتطوير الصداقات والتحالفات. فالقوة حين تتحول إلى اقتصاد تتحول إلى مصدر للثروة، وتصبح الحروب هي الطريق التي ترفع من الدخل وتزيد من مصادر القوة.

بعد إيزنهاور حصلت الكثير من التطورات الدراماتيكية في السياستين الخارجية والداخلية. فخارجياً لجأت واشنطن إلى سلوك طريق التوسع في فتح الحروب وخوضها على أكثر من جبهة. وداخلياً برزت الصناعات الحربية كقوة اقتصادية مميزة تقود مختلف فروع الانتاج. وهذا يعني في مختلف الصور السياسية أن الرئيس مهما كان يميل نحو المسالمة والموادعة فإنه يضطر إلى الاستجابة لضغوط «البنتاغون» لتصريف البضاعة المكدسة سواء من خلال بيعها في السوق الدولية أو من خلال افتعال الأزمات لاستخدام الأسلحة الجديدة واستهلاكها في ساحات القتال.

المشكلة الآن تفاقمت كثيراً وباتت مخاوف إيزنهاور في محلها، بل يمكن القول إن الصناعات الحربية تجاوزت حدود التحذيرات التي افترضها الرئيس/ الجنرال في خطابه الوداعي. فالمشكلة الآن تحولت إلى قانون اقتصادي يقوم على ثلاثية سياسية وهي: صناعة حربية - حرب - المزيد من الصناعة الحربية. وهذه الثلاثية السياسية في حال واصلت نموها وفق القانون الاقتصادي ستتطور لاحقاً إلى ثلاثية عسكرية وهي: حرب - صناعة حربية - المزيد من الحروب. أي أن الحروب تصبح ضرورة سياسية - اقتصادية لإنعاش الحياة الاجتماعية للطبقات الوسطى؛ لأن الأخيرة ستصبح مرتبطة مصلحياً بالصناعات العسكرية وبالتالي بالحروب. فتصبح الحروب سياسة الطبقات الوسطى التي تحتاج إليها لتستمر في حياة الرفاهية.

ضمن هذا الإطار - القانون من الصعب تصور وجود سياسة أميركية غير حربية في المستقبل حتى لو سقط بوش في الانتخابات وفاز منافسه الديمقراطي جون كيري. فالأخير يستطيع أن يضبط بحدود معينة جنون العظمة الأميركية ولكنه لن يستطيع أن يوقف جنون «البنتاغون» الذي بات يسيطر على مقاليد السياسة الخارجية من خلال الهيمنة على الاقتصاد.

تحذير إيزنهاور كان في محله ولكن القانون أقوى. فأميركا أسرت العالم وهي باتت أسيرة اقتصاد الحروب

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 704 - الإثنين 09 أغسطس 2004م الموافق 22 جمادى الآخرة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً