العدد 2374 - الجمعة 06 مارس 2009م الموافق 09 ربيع الاول 1430هـ

مذكرة التوقيف بين القانون الدولي وسيادة الدول

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

التظاهرات الحاشدة التي انطلقت في ساحات الخرطوم وأم درمان ومختلف مناطق ومدن السودان احتجاجا على مذكرة التوقيف بحق الرئيس عمر البشير التي صدرت عن «المحكمة الجنائية الدولية» أعادت طرح السؤال بشأن صلاحيات الهيئات الأممية ومدى قدرتها على التدخل في الشئون المحلية والتطاول القانوني على مفاهيم الحرية والاستقلال والسيادة.

هذا التعارض بين القوانين الدولية وسيادة الدول يرجح أن يتحول في السنوات المقبلة إلى ساحة تجاذب نظرية بين المفهومين حتى تتوصل القوى الكبرى ومختلف الدول المنضوية في إطار الأمم المتحدة إلى صيغة توافقية تحسم هذه النقطة الاشكالية في العلاقات.

مسألة التعارض بين المفهومين الدولي والقومي بدأت في السنوات الأخيرة وتحديدا منذ تسعينات القرن الماضي تأخذ ابعادها السياسية تحت غطاء إنساني. وأدى التعارض بين مؤسسات دولية تضمن سيادة الدول وحق السلطة في إدارة مشكلاتها الداخلية وبين مؤسسات ترفض مفهوم السيادة وتعطي الحق بالتدخل في الأزمات الوطنية بذريعة حماية حقوق الإنسان أو ضمان أمن الأقليات إلى توليد قناعات جديدة تطالب الأمم المتحدة بإعادة النظر في الكثير من المفاهيم التي توافقت عليها الدول عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية وتفكك مؤسسة عصبة الأمم.

القناعات الجديدة لم تتحول حتى اللحظة إلى قوانين وهي تحتاج إلى قراءة مخالفة لكل تلك المعاهدات والمواثيق والاتفاقات التي وقعتها الدول لكونها تشكل مجتمعة ذاك المشترك الإنساني (الكوني) الذي يوحد مصير الشعوب على اختلاف ألوانها ومعتقداتها تحت سقف دولي (أممي) يمنع التمايز أو التمييز. وبما أن الأفكار التدخلية الجديدة لم تتحول حتى اللحظة إلى قوانين بديلة ستبقى القرارات الدولية التي تصدر عن مؤسسات موازية عرضة للتأويل السياسي والتفسير الخاص والقراءة المضادة. فهناك الكثير من الشكوك عن الطبيعة السياسية لتلك القرارات. وهناك الكثير من الظنون بشأن الأهداف الحقيقية والجهات التي تضغط باتجاه صدور قرار ضد دولة والتغاضي عن محاسبة دولة أخرى. وهناك الكثير من المخاوف من أن تتحول الاجتهادات الجديدة بشأن تعديل القوانين الدولية واستخدامها من جانب القوى الكبرى للضغط على القوى الصغرى وابتزازها ماليا وسياسيا. وهناك الكثير من الحسابات التي تتصل بموقع الدول الكبرى وقدرتها على التدخل في إدارة الصراع وتوظيف مشكلات الدول الصغيرة واستثمارها في لعبة الأمم لتحسين المواقع والنفوذ تحت مسميات «حقوق الإنسان» أو «حماية الأقليات». كذلك هناك الكثير من العتب من جهة الدول الصغيرة على الهيئات الدولية التي تعجز عن مراقبة سياسات الدول الكبيرة ومحاسبتها قانونيا فتكتفي بملاحقة الضعيف وابتزازه وإهانته لسبب بسيط وهو انه ضعيف وغير قادر على الدفاع عن نفسه.

كل هذه التساؤلات ساهمت في تشكيل اتجاهات ايديولوجية متخالفة بين تيار يعتبر أن نظرية سيادة الدول سقطت تاريخيا ولابد من إنتاج مفاهيم قيمية جديدة تتناسب مع الطور المتقدم الذي بلغته الشعوب في العقود الأخيرة وبين تيار يرى أن المعاهدات الدولية السابقة لاتزال صالحة للاستخدام وهي في جوهرها تعطي صلاحية سيادية للدولة في التعامل مع مشكلاتها الداخلية.

عدم التوصل إلى صوغ مفهوم قانوني جديد للعلاقات الدولية المضطربة في مختلف الأمكنة الجغرافية يفسر إلى حد كبير تلك الملابسات وردود الفعل التي ظهرت ميدانيا بعد صدور مذكرة توقيف البشير. حتى المعارضة السودانية رفضت التعاطي الايجابي مع «المحكمة الجنائية الدولية». كذلك أبدت جامعة الدول العربية انزعاجها من صدور المذكرة. وبالاتجاه نفسه تحركت منظمة الدول الإفريقية واعترضت على المذكرة وطالبت بتجميدها معتبرة إياها مجرد ورقة تذكر بالتمييز العنصري واستضعاف الأفارقة والتعامل مع دولها من موقع الاستكبار والإذلال والاهانة.

ردود الفعل هذه أدت إلى تحويل عمر البشير إلى بطل وطني في السودان وأعطته ذاك الزخم القومي عربيا والدولي إفريقيا ما يؤكد من جديد على وجود ثغرة قانونية لاتزال حتى الآن في طور الجدل النظري بشأن مفهوم السيادة ومسألة التدخل «الخارجي» في الشئون الداخلية.


التعارض بين المفهوم والقانون

معضلة التعارض بين القوانين الدولية المتوارثة والمتوافق عليها وبين مفاهيم جديدة تطالب بتجاوز تلك العقبات والحواجز تؤشر إلى وجود خلخل بنيوي في علاقات الدول لم يتوصل في طوره الراهن إلى تشكيل بدائل موازية تتمتع بصلاحيات قانونية مجردة عن الأهواء السياسية والتمييز الايديولوجي واستخدام الدول الكبرى تلك القرارات والمذكرات لتمرير مشروعاتها الخاصة في تفكيك الكيانات الضعيفة أو تلك البلدان التي تعاني من أزمات داخلية أو توتر في علاقات مجموعاتها الأهلية.

العالم الآن يواجه معضلة قانونية حقيقية بين احتمال أن تتطور إلى حروب تزيد من حدة التعارضات وتؤدي إلى مواجهات تدمر الحجر والبشر وبين احتمال أن تحصل موافقات دولية تعدل صيغة المعاهدات والاتفاقات باتجاه إعطاء صلاحيات قانونية وقضائية للتدخل في الشئون السيادية للدول المنضوية في هيئة الأمم المتحدة. وبين الاحتمال الأول والثاني هناك الكثير من الثغرات لابد من الإجابة عن أسئلتها القانونية وتحديدا مسألة محاسبة الدول الكبرى على أفعالها وسياساتها ومشروعاتها وما تسببه من مشكلات ومذابح ومجازر نتيجة تدخلها «الفوقي» المخالف للمعاهدات الدولية ومواثيق الأمم المتحدة.

هذه الثغرات تشكل بحد ذاتها مساحة سياسية بين حق الدول في الدفاع عن سيادتها وحق الأمم المتحدة في التدخل وخرق قانون السيادة. ولهذه الاعتبارات السياسية تبدو الدول الصغيرة والضعيفة أو التي تعاني من مشكلات في التنمية والنمو المتوازن متخوفة من تلك المنظمات الدولية الموازية ودورها في تشريع سياسات تدخلية تحت غطاءات إنسانية ومسميات ايديولوجية. وتلك المخاوف التي ظهرت ميدانيا في الخرطوم وأم درمان ومختلف مناطق ومدن السودان تؤشر إلى وجود غضب عارم نتج عن الشعور بالمهانة والمذلة والاستفزاز المعطوف على التمييز العنصري والتفرقة العرقية واللونية والدينية وهو ما ظهر في ردود فعل المنظمات الإقليمية وتحديدا جامعة الدول العربية ومنظمة الدول الإفريقية.

ردود الفعل ليست بالضرورة تعبر عن تعاطف مع النظام السوداني ولا تبرر بالتأكيد تلك السياسات والأخطاء وإنما هي نتاج مجموعة عناصر تجمعت من روافد مختلفة منها عدم وضوح الجانب القانوني في مذكرة التوقيف واحتمال وجود دافع سياسي يستهدف هذا الطرف في وقت تتغاضى الهيئات الدولية عن محاسبة الإدارة الأميركية التي احتلت أفغانستان والعراق وسهلت عمليات الإبادة الجماعية في البلدين أو محاسبة «إسرائيل» التي افتعلت الحروب ضد دول الجوار وطردت الشعب الفلسطيني من أرضه وارتكبت مجازر ضد المدنيين في العدوان على لبنان (صيف 2006) والعدوان على غزه (شتاء 2008 و2009).

مسألة المحاسبة يجب أن تكون قانونية وتبتعد عن السياسة. والقانون حتى يحترم من الشعوب لابد أن يعتمد المساواة بين الدول وعدم التمييز بين البشر في اللون أو العقيدة أو الحياة المعيشية وان يعدل في الحكم والقضاء من دون خوف من القوي وصاحب النفوذ والتأثير. فالمسألة تحتاج إلى صدقية دولية حتى تأخذ المحاسبة مجراها القانوني العادل والا تحولت الهيئات الموازية إلى سوق مفتوحة على الرشوة ومكشوفة في توجهاتها الايديولوجية التي تستقوي على الضعيف وتتجنب محاسبة القوي.

ما حصل في السودان وإفريقيا والعالم العربي في الأيام التي تلت صدور مذكرة التوقيف بحق البشير يؤشر على وجود خلل في التعامل القانوني وضعف منطق العدالة في التعاطي مع قضايا لاتزال حتى اللحظة مدار بحث وخلاف ولم يتوصل الفقهاء والقضاة إلى صيغة توافقية تعدل تلك المعاهدات والمواثيق والاتفاقات التي تعطي ضمانات لسيادة الدول وتمنع التدخل في شئونها. وما دامت الأمم المتحدة لم تتوصل إلى قوانين موازية أو بديلة عن تلك المتعارف عليها قضائيا لتنظيم علاقات الدول وشعوبها ستبقى كل القرارات والمذكرات مجرد وجهات نظر ايديولوجية تفتقد إلى قوة القانون وتعطي الذرائع للاحتجاج والرفض والرد.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2374 - الجمعة 06 مارس 2009م الموافق 09 ربيع الاول 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً