العدد 709 - السبت 14 أغسطس 2004م الموافق 27 جمادى الآخرة 1425هـ

قبل 43 سنة... كان صرحاً من أسمنت فهوى

وثائق جديدة تتعلق بجدار برلين «الستار الحديد»

سمير عواد comments [at] alwasatnews.com

بعد مضي 43 سنة على بناء جدار برلين الذي انهار في نهاية العام 1989 نتيجة الثورة السلمية التي قامت بها جماهير ألمانيا الشرقية السابقة، تم الكشف عن حقائق ووثائق جديدة تتعلق بخلفية قيام هذا الستار الفولاذي الذي كان علامة تقسيم برلين وألمانيا وأوروبا حتى زال تماما ولم يبق منه سوى قطع صغيرة محفوظة في متحف (شارلي) نسبة إلى نقطة العبور بين شطري برلين وكانت تخضع لحراسة الجنود الأميركيين.

وبقي في علم المجهول خلفية قرار بناء الجدار الذي تم بدء العمل به في صبيحة يوم 13 أغسطس/ آب 1961 وتم إيقاظ عمدة برلين الحاكم فيلي برانت من نومه وهرع إلى مكان البناء محتجا بشدة. هل كان قرار بناء الجدار عاجلا وبطلب من «حلف وارسو» الذي كلف ألمانيا الشرقية بتنفيذه؟ وهل فاجأ هذا العمل الغرب وكان صدمة بالنسبة إليه؟ انطلق المؤرخون كافة حتى اليوم من حقيقة أن مؤتمر الدول الموقعة على معاهدة وارسو في موسكو المنعقد في الفترة من 3 إلى 5 أغسطس العام 1961 قرر إغلاق حدود ألمانيا الشرقية مع ألمانيا الغربية. 10689 يوما دام عمر الجدار الممتد على طول 165,7 كيلومتراً حتى انهياره بتاريخ التاسع من نوفمبر/ تشرين الثاني 1989، وحال من دون قيام صلات طبيعية بين أبناء الشعب الألماني وكان الموت رميا بالرصاص أو الدوس على لغم أو الحبس سنوات عقوبة من كان يحاول الفرار إلى الشطر الغربي من ألمانيا. وفي العام 1961 بلغ عدد الألمان الذين فروا من الشطر الشرق إلى الغرب عددا أثار قلق نظام برلين الشرقية ( نحو 2,7 مليون شخصا)، في مواجهة هذا الأمر بدأ تكثيف حرس الحدود وكلف الزعيم الألماني الشرقي فالتر أولبريشت لجنة عمل خاصة تابعة للحزب الشيوعي بإعداد تصور لوقف الهجرة إلى ألمانيا الغربية وكان هذا في يناير/ كانون الثاني 1961.

وفي مارس/ آذار سمح الزعيم السوفياتي نيكيتا خورتشوف بتنفيذ خطة بناء الجدار التي يقول الغرب أنه وضعها. وشاهد العالم الصور التي التقطت من الشطر الغربي علامة مأساة التقسيم. على سبيل المثال المواطن الألماني بيتر ماورر وهو ينزف حتى الموت تحت أقدام الجدار بعد أن أصيب برصاص حرس الحدود الألمان الشرقيين، وامرأة ترمي بنفسها من شباك مبنى في شارع بيرناور الفاصل في شبكة أمسك بها رجال المطافئ، يقع المبنى في الشطر الشرقي أما الرصيف فيتبع الشطر الغربي، ومشهد سكان البرلينيتين يلوحون لبعضهم بمناديل بيضاء في الوقت الذي انهمك فيه جنود وعمال البناء الألمان الشرقيون في بناء الجدار.

نشأ بعد ذلك جيل بأكمله لم يعرف سوى الجدار الذي كلف حياة 230 شخصا دفعوا الثمن غاليا مقابل الفرار إلى الغرب لكن الرقم الحقيقي للأشخاص الذين قتلوا لأنهم أرادوا الفرار من ألمانيا الشرقية لم يكشف عنه حتى اليوم. هناك من يقول أن عددهم قرابة 950 شخصا، بينهم من لقي حتفه غرقا في مياه البحر الشرقي أو البحر الأسود أو داسوا على ألغام أو سعوا بأنفسهم في فتح النار بواسطة بنادق أوتوماتيكية تنطلق تلقائيا تجاه نقطة معينة فور الدوس على شريط تحت الأرض. حصل هذا في زمن «الحرب الباردة» وزاد احتمالات المواجهة بين الشرق والغرب. واعتبر نظام ألمانيا الشرقية بناء جدار برلين انتصارا على الفاشية بينما وصفه الغرب بجدار العار.

وكشفت صحيفة «زود دويتشه» الصادرة في ميونيخ عن وثائق من الأرشيف عائدة إلى ألمانيا وروسيا والولايات المتحدة، أن ألمانيا الشرقية والاتحاد السوفياتي خططا لبناء جدار برلين منذ مطلع 1961 من دون مناقشة هذه الخطوة مع الشركاء في «حلف وارسو». كما تشير الوثائق التي عثر عليها أن إدارة الرئيس الأميركي جون أف كنيدي تنبهت بأن ألمانيا الشرقية ستغلق حدودها في وقت قريب لكنها اعتبرت أنه من غير المجدي إبداء مقاومة.

وحين اتخذ أولبريشت وخورتشوف قرار بناء الجدار، لم يكن هذا مفاجأة لواشنطن بل كانت في هذه المرحلة تراهن على الشروع في مفاوضات مع موسكو.

قابل الغرب بدء بناء الجدار باحتجاجات عالية وسرعان ما ظهرت أسئلة مريبة: ما هي المعلومات التي جمعتها أجهزة المخابرات الغربية عن خطط الشرق ببناء الجدار؟هل هناك اتفاق سري بين خورتشوف وكنيدي وفقا لما ذكره الناشر الألماني أكسيل شبرنغر المتوفي في العام 1985 وزعيمة التيار الشيوعي في حزب الديمقراطية الاشتراكية المعارض في البرلمان الألماني زهرة فاغينكنيشت؟ بعد انهيار جدار برلين ونهاية الحرب الباردة بين الشرق والغرب ظهرت وثائق في أرشيف الدولتين العظميين وألمانيا الشرقية السابقة، ضمنها رسائل متبادلة بين خورتشوف وكنيدي وتقارير السفارة السوفياتية في برلين الشرقية التي وصلت موسكو ومحاضر اجتماعات قمم حلف شمال الأطلسي والقمة الأميركية السوفياتية في فيينا العام 1961، والمداولات التي دارت بين مسئولين عسكريين من الاتحاد السوفياتي وألمانيا الشرقية ومفكرة مواعيد أولبريشت ووثائق كان يعتقد أنه تم إتلافها بعد وفاته في العام 1973 حين استلم إيريش هونيكر السلطة بعده وأمر بحفظها وهي اليوم موجودة في أرشيف الدولة في برلين.

واستجوبت مجلة(دير شبيغل) كلا من فيرنر إيبرلاين شاهد العصر الذي كان يقوم بمهمة الترجمة بين أولبريشت والدبلوماسي السوفياتي يوليج كفيزينسكي الذي كان يكتب باستمرار محاضر اللقاءات إلى خورتشوف،والمترجم الروسي فكتور بيليتسكي وهما يتحدثان اليوم بصراحة عن التطورات المشحونة في الزمن الساخن من الحرب الباردة الذي قرر مصير جيل بأكمله. آنذاك، مطلع الستينات، كان العالم يعيش حال توتر وكانت برلين الجبهة المتقدمة للحرب الباردة، وكان مئات العاملين في أجهزة الاستخبارات يتجسسون على بعضهم بعضاً، على جانبي الجدار ويحيكون المؤامرات، في الشطر الشرقي وقف السوفيات ومعهم الألمان الشرقيون في مواجهة البريطانيين والأميركيين والفرنسيين والألمان الغربيين وكان من شأن أي حادث أن يقود إلى حرب نووية.

في النهاية كان الحلفاء المنتصرون على ألمانيا في الحرب العالمية الثانية سعداء لأن الوضع انتهى بهذه الصورة، لكنهم تجاهلوا في هذا الوقت أنهم تركوا أمة مجزأة وفيما كتب للشطر الغربي أن يعيش في حرية كتب للألمان في الشطر الشرقي العيش 28 سنة في ظل حكم مغلق. ويتحدث المترجمان بصوت واحد ويتذكران قول خورتشوف للزعيم الألماني الشرقي فالتر: عليك أن تقتنع بأننا أمام حدود مفتوحة ليس بوسعنا كسب المنافسة في مواجهة الرأسمالية. ويؤكد المترجمان أن أولبريشت كان مقتنعا بضرورة بناء جدار فاصل وخصوصاً أنه اقترح عملية البناء في مطلع الخمسينات. وكان في حسابات خورتشوف أن البريطانيين والأميركيين والفرنسيين لن يخوضوا معركة من أجل برلين.

وفي العام 1958 طلب التفاوض مع الغرب للحديث بشأن منطقة حرة في برلين خلال ستة أشهر وهدد بترك حقوق برلين كافة لحكومة برلين الشرقية وبهذا يصبح بوسع الأخيرة فرض سيطرتها على حراسة الحدود وبالتالي وقف عمليات الهجرة إلى الغرب. بدأت على الفور حملة نزوح كبيرة. وفي العام 1960 أدار 152291 شخصا ظهورهم لألمانيا الشرقية وعبروا الحدود المفتوحة إلى برلين الغربية.

عملا باتفاق سري بين واشنطن وموسكو، اتخذت دول «حلف وارسو» قرارا بتاريخ الثالث من أغسطس ببناء جدار برلين وترك التنفيذ لأولبريشت الذي حدد موعد الثالث عشر لبدء العمل. واكتملت جميع الإجراءات العسكرية بتاريخ 11 أغسطس 1961 وفي هذه الليلة اجتمع السفير السوفياتي بيرفوشين مع القائد الأعلى للقوات السوفياتية في ألمانيا الشرقية ووزير دفاع برلين الشرقية هاينز هوفمان لبحث التفصيلات الأخيرة.

وفي ليلة 12/13 أغسطس أعلنت حال التأهب القصوى في صفوف قوات ألمانيا الشرقية والقوات السوفياتية المتمركزة فيها وزادت احتمالات قيام نزاع مسلح بين الشرق والغرب. غير أن الشيوعيين فوجئوا بالهدوء الذي صدر من جانب الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين واكتفت مظاهر الاحتجاج بصفير الاستهجان والشتائم التي كالها سكان برلين الغربية وحصل المرء على الشعور بوجود اتفاق بين الغرب ودول حلف وارسو على قيام جدار(العار).

تم كل شيء وفقا لما أراده السوفيات وقيادة برلين الشرقية، بعد شهر واحد على إغلاق الحدود مع ألمانيا الغربية اتخذ مجلس الشعب في برلين الشرقية قرار دفاع عقبه في العام 1962 بالخدمة العسكرية الإلزامية وأسهمت الحدود المغلقة في تجنيد مجتمع ألمانيا الشرقية ولم يعد بوسع أحد السفر عبر الحدود بالسهولة السابقة وحصل انقسام بين شعب واحد ومدينة واحدة وبلد واحد.

وكان خورتشوف وأولبريشت استعدا للأخذ بالحسبان الإبقاء على 17 مليون ألماني أسرى أول دولة اشتراكية تقوم على أرض ألمانية انهارت كليا بعد أيام قليلة على تظاهرات الاحتجاج التي قام بها الألمان الشرقيون في مدن لايبسيغ ودريسدن وبرلين الشرقية. وزال الجدار الحجري بعد إعادة توحيد ألمانيا ويبحث السياح الذين يزورون برلين جاهدين عن أجزاء صغيرة منه تركت لإشباع فضول زوار العاصمة الالمانية لكن الجدار النفسي ما زال قائما في رؤوس الكثيرين من الألمان حتى اليوم

العدد 709 - السبت 14 أغسطس 2004م الموافق 27 جمادى الآخرة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً