العدد 741 - الأربعاء 15 سبتمبر 2004م الموافق 30 رجب 1425هـ

سيرة الأعزل... بين براءة العاشق وحرية السياسي

إن مفاهيم الذات والسلطة والحقيقة والمعرفة والجنس والطبقة والحرية والآخر وغيرها تنعكس وتتجسد في نظام السجن عموماً ومؤسسة السجن الآسيوية خصوصاً. فكل ما هو خارج الأسوار يحضر داخلها على نحو مباشر أو غير مباشر.

ومؤسسة السجن الآسيوية لا تحاول كما هو الأمر في غيرها (الأوروبية مثلا) أن تموه أو تستر نفسها لأنها من العري بحيث لا تُستر بكل أنواع الأغطية والمساحيق والأصباغ. وقراءتنا هنا لهذه المؤسسة لا تقوم على البحث النظري الأكاديمي البحت، بل على تجربة معاشة وطويلة ومريرة تنظر إلى السجن من داخله بكل ما فيه من قسوة ومرتبية وظلم وعالم معقد من العلاقات بين السجناء الذين يؤسسون عالما خاصا وسريا وتحكمه قوانين داخل السجن العام وله قوة الإلزام والتطبيق.

وسيكون سجن «كويتا» الباكستاني الواقع ضمن حدود إقليم بلوجستان هو المكان الذي تدور حوله هذه القراءة التي هي محاولة لتفكيك نظام السجن الآسيوي.

وهذا السجن ملخص آسيوي لكل علاقات وسياسات وقوانين وتقاليد هذه القارة الشاحبة الضاجة بالشرطة والإرهاب والتفاوت وميثولوجيا يومية يتجاور فيها الموتى والأحياء في جوار لا مثيل له في مكان آخر في العالم إلا إفريقيا.

علقتُ في هذا السجن بعد عبور الحدود الإيرانية/ الباكستانية منتصف يناير/ كانون الثاني سنة 89 على الأقدام وبلا أوراق باعتباري مهاجراً غير شرعي قادماً من سجون إيران بحثا عن أرض أخرى تمنحه الحرية والخبز والجواز والأمل.

لكن كويتا ليس سجنا، بل هو صورة مصغرة لنمط الحياة الآسيوي بكل ما فيه من قوى وتقاليد وطبقات وعالم يلتقي فيه الديني والسياسي والاقتصادي والروحي في جوار وتعايش وعلاقة تبادلية في غاية الصرامة.

كان هذا السجن يمثل قلعة قديمة يعود تاريخها، كما هو مكتوب على بوابة السجن (إلى جانب صور محفورة لآلهة ووحوش زمجرت في وجوهنا عبر الحجر ولم نكن نحتاج إلى هذا الرعب الإضافي!) إلى ثلاثينات القرن العشرين ومن المؤكد في الحقبة الاستعمارية الإنجليزية لأن كثيرا من أنظمة العمل والقوانين والعادات هي إنجليزية الطابع بما في ذلك طرق الاستيقاظ والنوم والطعام والمراجعة ونظام الحراسة والأبراج والهندسة المعمارية التي تعكس المرتبية الاجتماعية والطبقية والقائمة على نظام العزل بين السجين وعالمه الخارجي أولا، وبين السجين والإدارة ثانيا، وبين الإدارة والحراس ثالثاً، والحراس وبعضهم رابعاً، وبين كل هذه النماذج وبعضها خامسا وعاشرا، بما في ذلك عزل السجناء عن بعضهم بحسب المرتبة والموقع والهوية.

ومن الصعب في هذا السجن فصل عالم الحراس والشرطة عن عالم السجناء لأن الحراس يقضون حتى أوقات راحتهم أو إجازاتهم بين السجناء وكثيرا ما رأيت «ماما عزيز» رئيس عرفاء الشرطة يصطحب أطفاله معه إلى السجن في أوقات فراغه أو عطلته! إن عالم الحراس الخارجي مفرغ من المعنى وهم من دون سلطة السجن لا قيمة اجتماعية لهم. إنهم سجناء أبديون. وبهذه الميزة يشتركون مع السجناء بوعي أو من دون وعي.

وفي الوقت الذي يبحث فيه الشرطة عن مخدرات عند السجين الجديد، إلا أنهم في الليل يقومون ببيعها للسجناء! بل أن بعض الشرطة يبيعون أجسادهم للسجين مقابل مال كما يفعل السجين الفقير أو المنبوذ حين يبيع جسده هو الآخر لأنه لا يملك غيره.

كرنفال محزن تختلط فيه صور الضحايا العلنيين، شرطة وسجناء، مع الجلادين السريين والمكشوفين في مؤسسات الحكم والقضاء والمال. ليست مصادفة أن يوجد في هذا السجن في هذه الحقبة سجناء من عدة دول آسيوية يمثلون شرائح اجتماعية وهويات إنسانية وسياسية مختلفة: فمن الأفغاني الشيوعي المقبوض عليه لسبب أو آخر، إلى الأفغاني الإسلاموي، ومن الإيراني الملكي إلى الإيراني الجمهوري، ومن العراقي الشيوعي، القومي، المستقل، الشرطي، المنحرف، الجندي، العربي، الكردي، وحتى رجل المخابرات الهارب لهذا السبب أو ذاك.

وكل صراعات هؤلاء في الخارج تجد صداها في الداخل وأحيانا على شكل معارك دامية تتدخل فيها الشرطة لإنقاذ السجناء السياسيين أو غيرهم من حوار الدم والتنكيل. وكما في الخارج، يوجد في السجن أنظمة عقاب خارج سلطة الإدارة وهي التشهير، النبذ، الضرب، حرمان من علاقات أو صداقات، كراهية ونفور، الصمت، طرد السجين إلى قاعة أو غرفة أخرى...الخ. ويقوم نظام السجن على تصنيف هؤلاء السجناء حسب البلد أولا، ثم الدين ثانيا، ثم الهوية السجنية ثالثا (مجرم، سياسي، لص، مخدرات) ورابعا موقعه الطبقي أو الاجتماعي وقد تتصدر صفة على أخرى، وأحيانا يتقدم الوضع الاجتماعي على السياسي، أو يتقدم هذا على الديني... الخ. إن المرتبة والموقع والمكانة في هذا السجن، الملخص لصورة آسيا، يحددها في الغالب الموقع الاقتصادي للسجين. فهذا الموقع هو الذي يرسم الحدود الأخرى الفاصلة ويخلق مستعمرة طبقية إقطاعية تتمتع بنظام الامتيازات خارج السجن نفسه.

روائي عراقي





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً