في العام 1980، نشرت صحيفة إيطالية لم يسمع باسمها أحد في العالم العربي، خبراً عن نية إيران نقل رفات الإمام علي (ع) إلى قم! وتلقفت إذاعة بغداد الخبر وأخذت تطبّل عليه، وأخذت بعض المجلات الصادرة في المهجر بترديده كما يتردد الصدى. والمسئولون الإيرانيون ظلوا زمناً يسألون: من أين خرجت لنا هذه الكذبة؟ بعد فترة بسيطة، تبين أن هذا «الخبر» المختلق سرّبته سفارة صدام في روما إلى هذه الصحيفة المغمورة، لقاء مبلغ من المال! فإذا عُرف السبب بطل العجب.
قبل سنوات، قامت صحيفة «الحياة» برصد عشر سيارات جوائز للمشتركين، وكتب أحد كتابها منتقداً هذه السياسة «التجارية» التي لن تكسب فيها «الحياة» قارئاً واحداً، وإنما تتحول معها إلى «بائعة يانصيب»! وسخر بقوله: صحيح أن المبيعات ارتفعت دفعة واحدة، ولكن «آلاف» القراء الجدد لا يجيدون العربية! تصوّروا آلاف المشتركين، غالبيتهم من شبه القارة الهندية الذين لا يجيدون فكّ الحروف العربية! وعندما بحثوا في الأمر لمعرفة «السر»، اكتشفوا أن هناك جماعات من العمال الأجانب كانت تبادر إلى شراء الصحيفة من أول نزولها السوق، سعياً للحصول على الكوبونات! وهكذا كانت تسع سيارات جديدة من نصيبهم، بينما كانت الجائزة العاشرة من نصيب مواطن سوداني مقيم في السعودية! ومن الطبيعي جداً أنه لو جاء معهد «غالوب» في فترة «عرض السيارات» وأجرى استطلاعاً للرأي، لاختلفت النتائج دراماتيكياً عمّا لو أجراه في اليوم التالي لتوقف العرض، إذ هبطت المبيعات مرة أخرى. فـ «الحياة» باعت في فترة العرض، واكتسبت جمهوراً آسيوياً مؤقتاً، عادت لتخسره من جديد في اليوم الثاني من توقف العرض. فإذا عُرف السبب بطل العجب بكل تأكيد!
شهادة من الكويت
الكويت شهدت تجربة أخرى مماثلة، إذ أخذت الصحف تتنافس على تقديم عروض السيارات. في حديثٍ سابقٍ مع مدير تحرير صحيفة كويتية، سألته عن ظاهرة التنافس المحموم بين الصحف الكويتية في هذا المضمار، فاعترف بأن هناك أعداداً كبيرة من الكويتيين يشتركون في الصحف ولا يقرأونها، ويرصدون لذلك جزءًا من موازناتهم، «يمكن تصيب ويمكن تخيب»! وأضاف أن هناك الآسيويين أيضاً الذين يقبلون على الاشتراك طمعاً في الفوز بسيارةٍ أيضاً، وكلما زاد عدد الاشتراكات ارتفعت فرصة الفوز بالسيارة.
الملاحظة نفسها ذكَرَتها مجموعة أخرى من الصحافيات العاملات في دولة الكويت، وان هناك حمى اشتراكات في الصحف فترة العروض، وأضفن بنبرة المتحسر مما تلقاه الصحافة من معاملة مهينة: «ان الصحف لم تكن تُقرأ وإنما ترمى في القمامة مباشرة بعد نزع الكوبون». وحين سألتهن: هل تغطي الصحف قيمة السيارات؟ أجبن: «هذه السيارات تحصل عليها إدارات الصحف بأسعار منخفضة، فالبيع بالجملة، وهناك صحف تأخذ السيارات ولا تدفع فلساً واحداً، وإنما تقايضها بإعلانات». وطبعاً لو أجرى «غالوب» استفتاءً لاحتلت كل صحيفة المركز الأول في فترة ترويجها للسيارات، وخصوصاً إذا وُزّعت في قسم الطواريء مجاناً!
في العالم العربي نواجه مشكلتين: هناك استغباء للقارئ العربي بتمرير أرقام مشكوك في صدقيتها على أنها حقائق علمية، وتكرارها حتى تصبح فوق الشك. والمشكلة الأخرى أن هناك شركات، تقوم بإعداد مسوح وإجراء استبانات جاهزة، وإعطائك النتائج التي تحبها أنت... فقط «انت تامر يا افندم»! حتى لو لم تكن تدفع قوائم الكهرباء طوال حياتك، وإنما تدفعها عنك وزارة الإعلام! وعندما سمع هذا الكلام مدير الشركة صمت واحمّر وجهه.
لا تنسوا أن الصحيفة الإيطالية المغمورة هي التي نشرت خبراً لم يمر برأس أي مسئول إيراني، وإنما مرّره صدام عبر بوابة أخرى بعيدة، ليقوم بإعادة نشره في إذاعته، ببساطة لأن العراقيين لم يكونوا يصدقون أي خبر تبثه «صوت الجماهير»
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 745 - الأحد 19 سبتمبر 2004م الموافق 04 شعبان 1425هـ
