العدد 2379 - الأربعاء 11 مارس 2009م الموافق 14 ربيع الاول 1430هـ

الدول العربية بين المصلحة والمصالحة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

موجة المصالحات العربية - العربية التي بدأت في قمة الكويت الاقتصادية وتواصلت في لقاء الرياض أمس ويرجح أن تستمر إلى قمة الدوحة وما بعدها لابد في النهاية أن تستقر على خطة عمل إطارية ترتب العلاقات وفق منظومة إقليمية تتوافق الإطراف على حدها الأدنى.

عدم التفاهم يعني أن ارتداد الموجة مسألة مرجحة بعد حين. وبالتالي العودة مجددا إلى مربع واحد ثم البدء من جديد في الدعوة إلى مصالحة. وهكذا إلى «أن يقضي الله أمرا كان مفعولا».

المصالحة ليست فكرة بقدر ما هي مشروع مؤسسة لابد من إعادة هيكلة قواعدها وأصولها وغاياتها في كل مرحلة حتى تتموضع في مكانها وزمانها لتبدأ القيام بدورها ضمن وظيفة مبرمجة في آلياتها وسياقاتها العامة والخاصة. تحويل المصالحة من فكرة جميلة إلى مؤسسة عملانية يتطلب رؤية استراتيجية تؤسس العلاقات على «فقه المصلحة». فالمصلحة هي الأساس وهي التي تحدد في النهاية الحاجة إلى مصالحة.

هل هناك مصلحة عربية بالمصالحة؟ الإجابة تؤشر إلى إمكان نجاح المصالحة أو فشلها. فالمصالحة حتى تكون جسر العبور نحو التفاهم لابد من وجود مصلحة تتأسس عليها لتضمن عدم تقوضها في فترة لاحقة. بين المصلحة والمصالحة مجموعة نقاط تبدأ بالحاجة. والحاجة لابد أن تتمتع بوظيفة. والوظيفة لا يمكن اختراعها بل هي تتولد من معطيات لها علاقة بالموقع والدور.

حتى تكون المصالحة متينة لا بد أن يعاد هيكلتها على الحاجة والوظيفة والموقع والدور لتتشكل منها منظومة علاقات إقليمية تعتمد آليات مرنه وقابلة للتطوير لترد على متطلبات غير ثابتة. فالمصلحة في طبيعتها متحركة وهي تتحول ضمن قوانين تبرمج الأولويات بحسب ضرورات المرحلة. لذلك تشكل المصلحة قاعدة المصالحة وهي تتطلب دائما إعادة النظر في جدول أعمالها حتى تستطيع التكيف مع المتغيرات والطوارئ والتحديات والمهمات المستجدة. والمصالحة لا يمكن أن تستمر من دون إعادة التوافق باعتبار أن المصالح غير ثابتة وتتغير دائما وتتحول بسبب التعديلات التي تطرأ على الفضاءات الدولية وموازين القوى ودخول عناصر على المعادلة الإقليمية.

المصالحة الناجحة هي التي يعاد تجديدها دائما وفق رؤية المصلحة وتلك المواصفات والتوصيفات التي تخضع بدورها للموازين والأحجام والمساحات والإمكانات والقدرات. فالكبير لا يستطيع أن يأخذ دور الصغير إلا إذا تراجعت مؤهلاته. والصغير لا يستطيع أن يأخذ دور الكبير إلا إذا تقدمت وتطورت لديه عناصر القوة.

وفق منظومة «فقه المصلحة» وما تعنيه من آليات تعتمد معايير الحاجة والوظيفة والدور والموقع والمهمات والتحديات والمستجدات يمكن القول إن هناك مصلحة عربية للعبور نحو المصالحة. والمصلحة تقتضي البحث عن وسائل مرنة توفق بين التعارضات وتمنع التناقضات من تعطيل الحد الأدني المشترك.

التوافق عادة لا يتأسس على الحد الأعلى (الأقصى) لأن ذلك يعني الاندماج والتوحد والإلغاء. وبما أن المطلوب عربيا ليس الوحدة والاتحاد وإنما احتواء الانقسام ومنع الاختلاف من التوسع والاختراق يصبح الحد الأدنى هو الإطار الشرطي المطلوب آنيا لإعادة هيكلة منظومة العلاقات الإقليمية على صيغة توافقية تضبط المفاهيم والغايات على إيقاع مشترك.


ماذا وكيف

ماذا تريد الدول العربية في المرحلة الراهنة؟ تحديد الأولويات مسألة مهمة للتعارف والتفاهم. سؤال ماذا يرتبط بدوره بالكيف. كيف تستطيع الدول العربية تحويل حاجاتها وأهدافها من مشروع نظري إلى خطة عمل تعتمد على آليات مبرمجة الخطوات. ليس المهم ما تتوصل إليه الدول العربية من أفكار تشكل الحد الأدنى بل الأهم ما هي خطة العمل التي تضعها وتتوافق عليها لتحويل الأفكار إلى واقع ملموس يمكن التعامل معه. التفاهم على «كيف» يؤسس مجموعة عناوين تساعد على عقلنة الإرادة السياسية وضبطها في سياق عملي لا يتجاوز حدود الإمكانات والقدرات.

مثلا هناك أصوات تطالب بالتخلي عن مشروع مبادرة السلام العربية التي أقرت بالإجماع في قمة بيروت في العام 2002. وهناك أصوات ترفض القبول بمشروع الدولتين في فلسطين. وهناك دعوات للتصديق على ثقافة المقاومة لاغيرها. وهناك تصريحات تشجع على تعطيل ما تبقى من مؤسسات تعمل في إطار جامعة الدول العربية. وهناك أحلام بالوحدة العربية من المحيط إلى الخليج أو السوق المشتركة أو وحدة النقد المشترك (الدينار العربي). وهناك الكثير من الأفكار التي تدفع الأدنى إلى الأعلى وتسقط الأعلى إلى الأدنى. إلا أن كل هذه الهواجس هي أشبه بالكوابيس الليلية التي تتبخر حين تشرق الشمس ويبدأ الصباح.

المشكلة العربية في أفكار الحد الأدنى أو الأقصى أنها متشابهة في نهاياتها. فمن يريد تحرير فلسطين من النهر إلى البحر غير قادر عمليا على الدفاع عن مقراته الحزبية في قطاع غزة مثلا. ومن يريد تحرير نصف فلسطين غير قادر عمليا على منع توسيع المستوطنات في الضفة الغربية مثلا. ومن يريد التخلي عن مبادرة السلام العربية بداعي ثقافة المقاومة لا يمتلك عمليا خطة ميدانية يمكن على أساسها إعادة هيكلة استراتيجية عربية طويلة المدى تعيد ترتيب المهمات بحسب المواقع والأحجام والمساحات والأوزان. ومن يتمسك بالمبادرة بسبب عدم وجود بديل عنها لا يمتلك ذاك التصور المطلوب الذي يرشد القوى العربية ويدلها على تلك الآليات المتبعة حتى تصل القافلة إلى محطتها.

كل هذه الأمثلة والنماذج والإشارات تؤكد على أن القوى العربية (الدول والشعوب) متشابهة ميدانيا حتى لو تخالفت في شعاراتها وألفاظها. وبهذا المعنى يمكن القول إن «الوحدة» العربية موجودة ومتوافرة بقوة في حال تم اختبار الدول على الساحة وفي الميدان. وهذا يعني أنه لا فرق بين رافض وقابل أو ممتنع ومعتدل إلا بالكلام وخصوصا وقت الامتحان كما حصل خلال العدوان على لبنان (34 يوما) أو غزة (22 يوما).

«في الامتحان يكرم المرء أو يهان» لأن الامتحان موضوع اختبار للكفاءة والقوة والاستعداد... وغير ذاك يصبح الكلام لا قيمة عملية له لحظة الاصطدام في الميدان. أسوأ ما واجه العالم العربي خارجيا وداخليا ومنذ تأسيس جامعة الدول كانت تلك السياسة اللفظية التي تعتمد لغة المزايدات والمكابرة والتطاول من دون متن أوسند. وهذا النوع من التدوير اللفظي للكلام أوصد أبواب التقدم ومنع القوى من التوصل إلى تحقيق الحد الأدنى بذريعة أن المطلوب هو الحد الأعلى (الأقصى). وبسبب هذه العقلية الإرادية تعطلت الإرادة وانقسمت المصلحة وتبخرت المصالحات واتجهت القوى نحو توظيف المطالبات في معركة الداخل بقصد تحسين شروط السلطة ضد الناس أو شروط التفاوض مع الاحتلال.

موجة المصالحات التي ارتفعت على اثر حرب الدمار في غزة تتطلب عقلية تسووية تتجاوز الأفكار البراقة وتطمح للتوصل إلى صيغة تتفهم معنى «فقه المصلحة» ومتطلبات المرحلة. فالمصالحة ليست فكرة بقدر ما هي مشروع مؤسسة تعمل على ترتيب أولويات لبرنامج عربي يعتمد آليات تجيب عن سؤالين: ماذا نريد؟ وكيف يمكن تنفيذ المطلوب؟ وبقدر ما يكون التوافق على الحد الأدنى تصبح إمكانات النجاح متوافرة أكثر. ومن ينجح في الحد الأدنى يستطيع لاحقا أن يتقدم لتطوير شروط نجاح الحد الأعلى.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2379 - الأربعاء 11 مارس 2009م الموافق 14 ربيع الاول 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً