العدد 767 - الإثنين 11 أكتوبر 2004م الموافق 26 شعبان 1425هـ

واقعية سحريّة

جعفر الديري comments [at] alwasatnews.com

ما من مرة أنهيت فيها قراءة رواية «للطيب صالح» الا وتبادر الى ذهني شعور غريب بفعل ذلك الخيال الجميل الذي تثيره هذه الروايات. الأمر الذي يكاد يقترب من خلق عوالم أخرى تضاف في ذهن القارئ. وما يزيد الأمر دهشة وافتتانا أن هذا الخلق يطلع من شجرة باسقة اسمها الحياة، وفروعها الشخصيات النابضة والتي هي محور كتابات الطيب صالح، المتمثلة بهؤلاء الناس الطيبين أبناء البلد الذين تتحرك شخصية كل منهم بعفوية وتلقائية.

فالروايات التي يكتبها الطيب صالح تتعانق تعانقا حادا مع روايات أخرى نجدها مع «ماركيز» في «خريف البطريرك» أو «أنديرا البريئة وجدتها القاسية» أو «لا أحد يكاتب الكولونيل» إذ أن الخيال الجامع يكاد يتحول الى واقع ملموس، تلك الواقعية السحرية التي تتخذ بفعل القلم ظلالا وتصورات أخرى مدهشة، ربما جعلت القارئ أكثر ارتباطا وتفضيلا للمقروء على المشاهد. انه ذلك الخيال الذي فتن الروائيين وجعل كاتباً عظيماً مثل «موباسان» يهيم به حبا ويصرح بسعادته لكونه قادرا على تصور كل شيء، على رغم أنه لم يكن منزويا ورافضا للواقع بل على العكس كان منغمسا للثمالة في الحياة ومتعها الحسية.

ففي رواية الطيب صالح «موسم الهجرة الى الشمال» شواهد عظيمة على هذا الخيال الساحر، نجدها مثلا مع دخول الراوي الى غرفة الرجل الغريب والظلام الذي يحيط به وقصاصات الورق المتدثرة بالذكريات وذلك الضوء الصغير الذي ينعكس على صور عشيقاته اللاتي كان السبب في موتهن او انتحارهن، نجدها مثلا في لقاء الراوي مع زوجة الغريب حيث الهدوء المتستر بالظلام وحديث الأمسيات الذي يكاد يلمس الأرض والأشجار، نجدها مثلا مع خروح الراوي بعد ليلة مؤرقة الى النيل وصورة القمر المنطبعة على صفحاته وسباحته مع التيار الى الدرجة التي ينسى فيها نفسه، نجدها مثلا في تلك الليلة الشاتية التي أقدم فيها الغريب على قتل زوجته، اذ كان الطابع نفسه في رواية «مريود بندر شاه» حين يحلم كل فرد من أبطال الرواية ببندر شاه وقصره وهو يأمر وينهي العبيد والعذارى وحيث السبي وآكلو لحوم البشر، أو برؤية أحد شيوخ القرية لجسم غريب يلوح من بعيد فيحسبه جنيا فيظهر له بشرا سويا ذا عيون زرقاء تدفعه المياه الى أرض لا يعرفها ليقاسم أهلها بعد ذلك العيش.

والخيال عند الطيب صالح يثير بعدا آخر جديرا بالدراسة وصعوبة الحياة التي يعيشها الانسان السوداني قرب النهر والمحن والمصاعب التي تكتنفه لا تخفى على أحد ولكن الطيب صالح عندما يكتبها ليقرأها القارئ يفاجأ كيف أن الليل والقمر وذلك المكان البعيد يخلق رؤية مختلفة وشعورا آخر يتمنى معه القارئ لو أنه كان جزءاً من هذه الصورة يعيشها كما يعيشها أهلها، فكيف تسنى للطيب صالح كل هذا الشعور بهذا الجو وكيف استطاع أن ينقله بكل سحره وعذوبته؟! ملامح كثيرة في الواقع لا تخطأها الذاكرة وتظل تلتمس فيها صورة متجددة لأناس آخرين ووقائع خلقها الطيب صالح بحبر السحر والخيال

العدد 767 - الإثنين 11 أكتوبر 2004م الموافق 26 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً