العدد 772 - السبت 16 أكتوبر 2004م الموافق 02 رمضان 1425هـ

ساقو العطاشى... إلى أين؟

عبير إبراهيم abeer.ahmed [at] alwasatnews.com

كثيرا ما لفت نظري رجل كبير في السن بشعره الأبيض الذي لا يخفي بضع شعرات شقراء كامنة تحت قبعته... دائما ما أتأمله وهو يبيع قناني الماء على العطاشى منا بالقرب من أحد المجمعات التجارية... نحن ننعم بمكيف السيارة البارد وهو في الخارج يتصبب عرقا وأحسبه أعطش واحد فينا على رغم توافر الماء عنده... لكنه أبى على نفسه التمتع بشربة ماء قد تفقده ثمنها البخس الذي سيطعم به عياله!

كنت دائما ما أرأف لحال هذا الرجل الذي لا يخفى على أحد منا أن بلادنا تزخر بالكثير من أمثاله... أرأف لحاله ليس لبساطة عمله أو الاستهانة به، إذ هذا ما يجعلني أركع لرجل مثله أبى على نفسه العيش متوسلا للرحمة التي عدمت في قلوب كثير من البشر، فإن رقوا وحنوا عليه فذلك لا يعني لدى الغالبية منهم إلا رمزا للتظاهر أمام الناس بمظهر يخفي من ورائه الكثير مما لا يعلمه إلا الله!

أرأف لحال رجل مثله وأنكسر أمام شيبته التي أخذت من قوته مأخذها فجعلته «يا دوب» يجر الخطوة، وأستحي وأنا من أعادل أن أكون ابنته أن أجلس ساكنة في مكاني متنعمة براحة تامة وهو من يقوم بخدمتي! صحيح هذه مهنته، وهذه مصدر رزقه ورزق عياله... ولكني من أولئك الذين يخجلون من طلب خدمة من والدهم، في نظري من الأولى أن يقوموا بها هم لوالدهم!

لا أعلم إن كان لهذا الرجل أولاد من القدرة بحيث يقومون على خدمته ولكني أتساءل إن قدر لهذا الرجل أن يحرم من نعمة الأولاد أفلا يجد في هذه الدنيا من يحل محل ولده فينعم عليه براحة ولو ليوم واحد من مشقة الشمس وحرارتها التي صبغت جلده الأبيض بحمرة ما بعدها حمرة وأرهقت جسده النحيل فجعلته ينحني في زاوية قائمة ويداه ترتعدان ضعفا وفمه يلهث عطشا وتعبا؟!

والآن، نحن في شهر رمضان، والماء طوال النهار يجب ألا يقترب من فمنا... فهل فكر أحدنا في هذا الرجل وأمثاله؟ أين هم الآن وكيف يحصدون رزقهم؟ كانوا يسقوننا فيطعمون أفواههم وأفواه أولادهم بكسرة خبز و«بلل ريق»... والآن نحن عطاشى لحكمة من رب كريم فيعز علينا شراء قنينة ماء لن نتمكن من نيل رشفة منه، فكيف بهؤلاء أن يعيشوا؟

في ليل البارحة لمحته من جديد... مازال هذا الرجل يبيع الماء وفي المكان نفسه... لكني لمحت عليه علامات تعب لم أشهدها عليه في المرات السابقة... علامات تخفي وراءها أسرارا يعجز المتنعمون أمثالنا عن كشفها... قليلون من اشتروا منه، ولا يكاد عددهم يصل إلى نصف عدد من يشترون منه قبل الشهر الفضيل... أولا يكشف لنا ذلك سرا من أسرار الترقب والخوف والانكسار التي ملئت بها عينا هذا الرجل وجعلت جسده يأخذ في الانحناء أكثر فأكثر؟

إقرأ أيضا لـ "عبير إبراهيم"

العدد 772 - السبت 16 أكتوبر 2004م الموافق 02 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً