العدد 775 - الثلثاء 19 أكتوبر 2004م الموافق 05 رمضان 1425هـ

«الهيئة» بين دروس التاريخ ودعاوى «الطأفنة»

«يا ولدي... ملعونٌ ملعونٌ ملعون»

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

شهدت قاعة مركز البحرين للمعارض الاسبوع الماضي حدثاً بارزاً، جمع أطراف الساحة، ليشكل علامة جميلة على عهد الوفاق الوطني، والرغبة لدى الاطراف المختلفة في لملمة الجراح، والتطلع نحو المستقبل بنظرة جديدة.

في تلك القاعة اجتمع وزيرٌ يمثل الدولة، ومسئولون ومعارضون، وكان الطرح العام إيجابياً، ينم عن الرغبة في التآلف والتقارب. تتطلع فترى أطيافاً مختلفة من أبناء هذا الوطن مجتمعة في قاعة واحدة. كلهم جاءوا لاضاءة الشموع في الذكرى الخمسين لهيئة الاتحاد الوطني.

أهمية الحفل لم تكن في تلك التفاصيل الصغيرة، وإنما فيما سيخرج به الحاضرون من دروسٍ وعبر. وهكذا التاريخ دائماً: فائدته فيما نأخذ منه من عبر ودروس توجّه حياتنا وترشدنا إلى تجاوز المطبات التي وقعنا أو وقع فيها غيرنا. وهذا هو الفارق بين البشر وبين طبقة الحمير. البشر يرى العثرة فيتجاوزها، أما الحمار فيصرّ على السير على الطريق الأعوج الذي اعتاد المرور عليها كل يوم، حتى لو أدى به إلى السقوط في الحفرة على رأسه. هل رأيتم حماراً يعتبر من تاريخ أجداده؟ تلك فضيلة بشرية بامتياز، إلاّ من شذّ من الحيوانات القاصية.

لو تأملنا في طريقة التعاطي مع الحدث - الحفل، لرأينا نموذجين يسودان الساحة في أكثر الأحيان. هناك نموذج ذهب إلى القاعة وهو يودّ الخروج بالدروس واستخلاص العبر، ليعبّد بها طريق المستقبل، في مقابل النموذج المنساق وراء غرائزه الطائفية وهواجسه المرضية.

التاريخ قيمته الكبرى فيما يقدّمه لك من عبرٍ توفر عليك طريق الآلام والدماء. هؤلاء جلسوا إلى جانب بعضهم بعضاً، يتابعون فقرات الحفل، يصيخون بسمعهم إلى كلمات المتحدثين، ويتطلعون في الكتيبات والنشريات التي تؤرخ للذكرى، ويتابعون «الفيلم الوثائقي» الذي كان عبارةً عما تبقى من صورِ فترةٍ لم تعرف انتشار التصوير المتحرك أو الفيديو إلا بعد ثلاثين عاماً، تم عرضها في تتابع يواكب الحدث، مع تعليقٍ مبسّطٍ يلقي الضوء على خلفية الحوادث. بعدها عرضٌ مسرحيٌ بسيط لثلّةٍ من الفتيان والفتيات في عمر الزهور. وفي الختام تم تكريم من بقي من جيل الهيئة، وأسرهم الكريمة.

حفلٌ ليس فيه تلك البهارج الإعلامية الضخمة أو الألعاب النارية، فلم ينفق عليه مئات الآلاف من أموال الشعب، فجاء بسيطاً أنيقاً، شاركت فيه أطرافٌ أهليةٌ، وقدمت الدراز مقتنيات تراثية، ومجلدات من الصحف القديمة، إلى جانب لوحات فنية من المرسم الحسيني، لتشكّل بمجموعها لوحةً جميلةً معبرةً عن جلال المناسبة، لتجعلك تعيش بكل أحاسيسك في تلك الأمسية.

من هنا تتفاجأ إذا رأيت الصورة في اليوم التالي مقلوبة ومشوّهة تماماً، في عيونٍ لا ترى إلا باللون الأسود، فتصوّر لك المشهد وكأنه تآمر على الله والوطن والتاريخ والجغرافيا. فالفعالية برمّتها باطلة، والاحتفال إساءة فاضحة إلى التاريخ، وملعونٌ من فكّر بها وشارك فيها أو حضرها، فالفيلم الوثائقي تطاولٌ معيبٌ على المسرح البحريني و«صناعة السينما» و«هوليوود البحرين»! والإدارة سيئة، والتوظيب ركيك، والاجتهادات غير مسئولة، وحتى الصالة ملعونة ابنة ملعون! ذاتٌ متضخّمة، كأنك تقرأ كتاباً مفتوحاً لنيتشه أو شوبنهاور، الذي سبّ العالم كله، ثم عاد ليسبّ نفسه ويتهم أمه بالفجور!

نظارة أخرى لا تقل سواداً، تدور حول هاجس من نوع آخر، تعيش على النتن الطائفي، يعرفها الناس، رائد فتنة ونافخ كير، فـ «نحن» و«أنتم»، وليغرق الوطن في بحرٍ لجيّ من الصراع الذي نزَفَ بسببه لبنان عشرين سنة، ونزفت بسببه أفغانستان خمس عشرة سنة، ويراد للعراق أن يدخل في هذا النفق المظلم الآن، ويريد مثل هؤلاء أن ننزف منه في البحرين أيضاً بما يسعون إليه من ترسيخ قيم الظلم وتدعيم الامتيازات والتحريض ضد دعوات العدالة والتأجيج وصب الزيت على نار الطائفية. يسوؤهم جداً أن يلتقي ابن المحرق بابن المنامة، وابن سترة بابن البديع، وترتفع حرارتهم إذا اجتمعت في قاعةٍ واحدةٍ ألوانٌ متنوعة من أبناء هذه الجزر الطيبة. ماذا يضرّهم لو حصلت مصالحة تاريخية بين النظام والمعارضة، ترفع الظلم وتبشّر بنشر العدالة والمساواة بين أبناء الوطن الواحد؟ لكنها المصالح العمياء، فقد عاشوا كالإبل الضالة على هذه النبتة المنتنة، رداً للجميل لمن يدفع الرواتب الإضافية من تحت الطاولة، حتى ثمن العلاج والأدوية. ميكافيلليون حتى لو ارتدوا عباءة القديسين، فهل تنطلي خزعبلاتهم على أحفاد الباكر وكمال الدين؟

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 775 - الثلثاء 19 أكتوبر 2004م الموافق 05 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً