العدد 2807 - الخميس 13 مايو 2010م الموافق 28 جمادى الأولى 1431هـ

داروين وفلسفة الارتقاء والانتخاب الطبيعي

نشوء النخبة الأوروبية (13)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

حين نشر تشارلز داروين كتابه عن «أصل الأنواع» في العام 1859 قامت ضجة كبرى في أوروبا بشأن نظرية النشوء والارتقاء التي قالت بفلسفة التطور الطبيعي في خمس محطات: الوراثة، التحول (التكيف)، التوالد (التكاثر)، التناحر على البقاء، بقاء الأصلح (انتخاب المتفوقين في معركة التنافس).

هذه النظرية الفلسفية المادية عن «الانتخاب الطبيعي» أو «النخبة المختارة» وأصول الإنسان وتطور الأحياء أثارت الجدل ولكنها كانت طبيعية في قارة حققت اختراقات نوعية في مجالات التقدم العلمي والاكتشافات الجغرافية والفلكية والاختراعات التقنية. فأوروبا آنذاك نجحت في السيطرة التجارية على نصف العالم وباتت شعوبها تحتل مواقع مركزية في عالم وراء البحار وأخذت تمد نفوذها الثقافي (نموذج يحتذى) إلى مختلف أنحاء المعمورة. كذلك توصلت أوروبا داخلياً إلى تشكيل نواة نخبة صلبة لم تعد تتردد في إعلان إلحادها وتشكيكها بأصل «العلة الأولى». فالكفر لم يعد تهمة تخجل أو تتخوف النخبة من الإشهار بها بل تحولت إلى وجهة نظر يمكن البوح بها والبرهان عليها اعتماداً على تلك الابتكارات والقراءات والمخططات التي أنتجتها العقول والآلات خلال القرون الأربعة الماضية.

كلام داروين في العام 1859 عن نظرية التطور (النشوء والارتقاء) جاء في سياق تحولات كبرى أنتجتها المصانع والمعامل والاختراعات والمختبرات وعلماء الفيزياء والكيمياء والأحياء.

علم الجراحة والتشريح تقدم سريعاً بعد اكتشاف الألماني فريدرك سرتورنر المورفين في العام 1803. العالم الطبيعي الفرنسي جان باتيست لارماك (1744 - 1829) وضع كتاباً في العام 1809 عن «فلسفة الحيوان» أوضح فيه أول نظرية تطورية في علم البيولوجيا. هربرت سبنسر (1820 - 1903) أصدر في العام 1855 كتاباً عن «مبادئ علم النفس» شرح فيه مذهبه الحسي والتطور الأجني بالوراثة، ألحقه بمقال عن «قانون التطور وعلته» في العام 1857 استفاد منه داروين الذي اعترف في مقدمة كتابه عن أن سبنسر سبقه في اكتشاف مبادئ النظرية التي أعاد ترتيبها وتنسيقها في قانون «أصل الأنواع».

أفكار داروين التي صاغها كانت شبه متداولة قبل اكتشافه لها في مقالات متفرقة ومنشورات جامعية ومحاضرات ودراسات متناثرة. وحين نظم داروين نظريته في نسق واضح ومتماسك اعتمد في كتابه على الكثير من المصادر والمراجع المتداولة في حدود الاختصاصات والمنشورات العلمية التي كانت تتناقلها المعاهد والأكاديميات.

صديق داروين الباحث الإنكليزي توماس هكسلي (1825 - 1895) قال بالمذهب الطبيعي وكتب في علم الأحياء والتشريح المقارن، وحاول الجمع فلسفياً بين هيوم وداروين خلال دفاعه عن نظرية صديقه الذي سبقه في الكتابة عنها باستطراد ومنهجية متجانسة. هكسلي أيضاً قال بنظرية التطور قبل داروين وأصدر بشأنها سلسلة دراسات قام بنشرها في كتابه عن «مكان الإنسان في الطبيعة» في العام 1863.

داروين (1809 - 1882) لم يكن وحيداً. فهو أساساً تربى في كنف أسرة في شروزباري تؤمن بنظرية التطور. والده (روبرت وارنغ داروين) طبيب. والدته ابنة صاحب مصنع خزف. جده (اراسموس داروين) طبيب أيضاً وصديق واط (مخترع آلة البخار) وبريستلي (مكتشف غاز الأوكسجين) كان مؤيداً لنظرية التطور.

داروين تشبع بالروح العلمية منذ طفولته وعاش في إطار أسرة مستقرة ومرتاحة اجتماعياً ما وفر له فرص الدراسة والتعلم والتفرغ لرحلات الاستكشاف وكتابة بحوثه عنها. فهو بداية التحق في العام 1825 لدراسة الطب في ادنبره (اسكتلنده) ولكنه تحول إلى دراسة علوم الأحياء (الأحياء المائية) بسبب حبه للتشريح وهواية جمع الحشرات وميوله للكيمياء (التجارب والمختبرات). وحين ذهب إلى جامعة كامبردج في العام 1827 التحق بكلية اللاهوت وقضى فيها ثلاث سنوات اضطر بعدها إلى مغادرتها لمتابعة اهتماماته وشغفه بالكيمياء الاحيائية.

استمر داروين يتقلب في الاختصاصات إلى أن توافرت فرصة الذهاب في رحلة ملاحية حول العالم. وبسبب حبه للاستكشاف وظروف أسرته المريحة اجتماعياً استطاع تأمين غطاء مالي للالتحاق بالرحلة (الاستكشاف الطبيعي العيني) التي بدأت في العام 1831 وانتهت في 1836.

قضى داروين 5 سنوات في رحلته حول العالم يجمع الحشرات والنباتات ويدون ملاحظاته عنها. وحين عاد قرر الإقامة في لندن ملتحقاً هناك بالجمعية الجيولوجية لمدة خمس سنوات أيضاً ولكنه اضطر إلى مغادرة العاصمة في العام 1842 لأسباب صحية فتوجه إلى الريف (مقاطعة كنت) ليتفرغ إلى كتابة ما انجزه وجمعه من معلومات.

خلال وجوده في لندن اطلع داروين على مقال مالتوس عن التكاثر السكاني (التعداد والنمو الديموغرافي) الذي نشر في العام 1836 وتأثر به كثيراً واعتمد عليه حين نسج نظريته عن الاختيار أو الانتقاء (الانتخاب الطبيعي). في مقاطعة كنت التي توفي فيها تابع كتابات سبنسر عن قانون التطور وعلته، ودراسات هكسلي عن موقع الإنسان في تطور الطبيعة ما شجعه على إصدار كتابه عن «أصل الأنواع» وألحقه بكتاب آخر عن «أصل الإنسان» في العام 1871 ما أدى إلى فتح سجال طويل دفع أصدقاءه وتلامذته وأتباع نظريته إلى الدفاع عنه.

أثارت أفكار داروين ضجة كبيرة في أيامه وشكلت فاتحة في منهج التعامل مع علم لا يكتفي بقراءة تاريخ الإنسان وماضيه وإنما يتوسع في مجاله للوصول إلى أصله وأساس علته وكيف تطور طبيعياً من خلال التوالد الذاتي والارتقاء الزمني، فاتحاً الباب أمام احتمالات علمية غير منظورة.

هذه النظرية العلمية (المختبرية) واجهت النقد ولاقت أيضاً الكثير من الأنصار. سبنسر (مهندس سكك حديد) دافع عنها وأضاف عليها. هكسلي روج لها وعمد إلى توسيع أطرها الفلسفية باتجاه ما أسماه «المادية التلقائية» مستخدماً مصطلح «اللاأدرية» وهي نظرية لاهوتية قديمة تجددت قاعدتها في ضوء المكتشفات العلمية المعاصرة. واللاأدرية تعني «لا أدري» وهي نظرية تنكر إمكان معرفة العالم وترى أن هناك ما يشبه الاستحالة لمعرفة كل الأشياء. ومن لفظة (لا أدري) اخترع هكسلي قاعدة فلسفية تقول «إننا نفترض أننا نعلم حقيقة الأشياء ولكننا فعلاً نحن لا نعلمها».

نظرية «اللاأدرية» لا تعني فقط التهرب من مواجهة الحقائق والبوح بالقناعات الضمنية وإنما هي أيضاً ذلك الباب الكبير المفتوح على المعرفة المتواصلة (علم الإنسان) التي لا تنتهي آنياً بالاكتشافات والاختراعات. فاليوم «لا ندري» وربما غداً «ندري». وبهذا المنطق الفلسفي نجح هكسلي في ترك باب العلوم مفتوحاً على كل الاحتمالات وفي الآن استطاع الدفاع عن نظرية صديقه بشأن التطور ومنظومة النشوء والارتقاء والانتخاب الطبيعي.

نظرية داروين عن الانتخاب الطبيعي وفلسفة الارتقاء والتوالد (التكاثر) والتناحر التلقائي على البقاء وأخيراً البقاء للأصلح (الاختيار وبقاء النخبة المختارة) لم تتحول بداية إلى مشكلة سياسية لأنها أساساً قراءة منهجية علمية في ماضي الإنسان وتطوره من محطة إلى أخرى. المشكلة بدأت حين استخدمت النظرية في دراسات علم الاجتماع، إذ أخذ أنصار داروين في أوروبا بتطويرها وإدخال عناصر غير علمية فيها ما أدى إلى تحويلها إلى قناة لفرز البشر بين شعوب منحطة وأخرى راقية وأعراق متفوقة وأخرى غير صالحة للبقاء.

هذه الفلسفة التفوقية أطلق عليها لاحقاً بـ «الداروينية الاجتماعية» وهي نظرية قال بها أحد أتباع داروين وهو عالم الأحياء الألماني ارنست هيكيل (1834 - 1919) حين كان أستاذاً في جامعة فيينا. فهذا العالم الأحيائي دافع عن اكتشاف داروين وأعاد تطبيقه على الاجتماع البشري ما دفعه إلى تطوير المفهوم عن الانتخاب الطبيعي (الاختيار، الانتقاء) على طبقات البشر ودرجات الشعوب، مؤكداً على مسألة تكيف الأجهزة العضوية مع البيئة وتأثرها التطوري باختلاف الطبيعة والمناخ. فالانتخاب (المادية التطورية التلقائية) تحولت لاحقاً من فرضية علمية طبيعية عن تاريخ الإنسان البيولوجي إلى نظرية سياسية تعتمد مختبرياً للتمييز بين أجناس الأعراق وألوانها ودرجاتها ما ساهم في انحرافها وتحولها إلى عامل للفرز ومحطة من محطات التطور العضوي الاجتماعي (البشري) لتقسيم الناس إلى صالح وغير صالح. وأدى هذا الانحراف النظري في التعامل المختبري مع البشر إلى تبرير نهوض فلسفات عرقية تصنف الإنسان وتضعه على مراتب متفاوتة في نموها وتقدمها ما ساهم في تأسيس مدارس عنصرية تشجع على القتل والإبادة والمحارق للتخلص من «الأدنى» لمصلحة الأرقى و»الأعلى».

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2807 - الخميس 13 مايو 2010م الموافق 28 جمادى الأولى 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 8:46 ص

      شكرا

      جد يسلمو كتييير استفدت

    • زائر 3 | 7:02 ص

      عبد علي عباس البصري

      سمك كبير يأكل سمك صغير ) ولا كن من الناحيه السيطره الذاتيه التي بنى الله عليها الخليقه ، من حيث مثلا: الدوره الغذائيه في الطبيعه وتستقر الطبيعه عليه . والانسان سيد المخلوقات ، حيث يمثل السياده القطبيه على العالم .
      وداروين اسس نظريه الارتقاء على اساس صحيح وخاطئ في نفس الوقت ، الارتقاء حاذث في المخلوقات من حيث سيكيولوجيه وفسيولوجيه المخلوقات ، حيوانا بدائيه وحيده الخليه واخرى صدفيه واخرى فقاريبه واخرى

    • زائر 2 | 6:53 ص

      عبد علي عباس البصري

      وقالت اليهود والنصارى نحن ابناء الله واحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل انتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والارض وما بينهما واليه المصير . هذه الادعائات فندها القرآن الكريم وانكر عليها ، وكثيرا ما نرى هذه الادعائات حتى في صفوف المسلمين ، بعتبارهم هم خير امه بالجمله لا بالخصوص فكما ان اليهود قال الله عنهم يعذب من يشاء ويرحم من يشاء فان المسلمين كذلك يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وخير امه هم المتقون الذين هم من وصفهم القرآن الكريم في سوره الحمد صراط الذين انعمت عليهم.

    • زائر 1 | 2:28 ص

      شكراً وليد نويهض

      وننتظر المزيد من المقالات في هذا الموضوع

اقرأ ايضاً