العدد 792 - الجمعة 05 نوفمبر 2004م الموافق 22 رمضان 1425هـ

قراءة مختلفة للانتخابات الأميركية

أيهما أفضل الجمهوري أم الديمقراطي؟

عادة ما ينظر القارئ العربي إلى السياسة الأميركية من خلال الإطلال على العالم من زاوية ضيقة. فالقارئ عموما اعتاد على رؤية المصالح الدولية انطلاقا من ثنائية عربي - صهيوني أو مسلم - يهودي. وبما أن معظم السياسات لا تقوم أصلا على مثل هذه القاعدة العربية بل إنها تستخدمها لمصالح كثيرة ومعقدة أصيبت الاتجاهات العربية دائما بخيبات أمل وفشل دائم في المراهنة على هذا الحصان أو ذاك. الجانب الفلسطيني مهم في قراءة المواقف كذلك موضوع الصراع العربي - الإسرائيلي لا يقل أهمية. إلا ان مصالح الدول الكبرى لا تختزل دائما إلى هذا الحد من التبسيط الذي ينتهي عادة إلى الفشل المتكرر والخيبات الدائمة. فالسياسة الدولية، وتحديدا الأميركية، لا يمكن اختصارها بكلمة أو بثلاث كلمات. كذلك لا يمكن اختزال المواقف كلها حتى تنسجم مع قناعات سياسية عربية أو مواقف رسمية تتخذها هذه الدولة العربية أو تلك. فالسياسة الدولية كبيرة جدا ومداخلها معقدة ومتعددة واحتمالاتها مفتوحة دائما على تحولات من الصعب تحديد مواصفاتها قبل فترة زمنية من حصولها. مثلا من كان يتصور أن العالم سيشهد مثل تلك الضربة التي وقعت في 11 سبتمبر/ أيلول 2001؟ ومن كان يظن أن الولايات المتحدة ستتحول إلى ثور هائج لا يفكر وتقوده غريزة الثأر والانتقام؟ ومن كان يدرك سلفا أن تلك الدولة التي تحترم «بحدود نسبية» القرارات الدولية وتلتزم بما اتفقت عليه الأمم في المواثيق الدولية ستخالف كل ما عرف عنها من تقليدية وستطيح بكل ما كانت تدعو إليه الدول الأخرى إلى الالتزام به؟ ومن كان يضع في حساباته أن الولايات المتحدة ستنقلب على نفسها وتتحول فجأة من دولة كبرى إلى «قبيلة» كبرى تنساق وراء الأهواء وتجتاح الدول غير عابئة بمصالح الدول الكبرى الأخرى؟ ومن كان يفكر أن الرئيس الأميركي سيقسم العالم إلى ثنائيات جامدة تقوم على معادلة تبسيطة «الخير» و»الشر» ويبدأ حملته العالمية وفق هذا التصور الساذج؟ ومن كان يعتقد أن واشنطن ستقوم بتشطير الكرة الأرضية إلى «مع» و»ضد» ومن هو مع أميركا في معركتها الخاصة هو مع الخير وضد الإرهاب ومن هو ضدها في معركتها الهوجاء هذه هو مع الشر ومع الإرهاب؟ وغيرها وغيرها من نقاط يمكن إدراجها للقول إن الصراع الدولي دائما لا يمكن التكهن بنتائجه ولا بمساراته. فالصراع مفتوح على احتمالات متعددة ومن الصعب ترجيح كفة قبل أن تتضح كل الأدلة. مثلا من كان يظن في مطلع التسعينات «باستثناء قلة قليلة» أن دولة عظمى تملك من المساحات الجغرافية والإمكانات ومصادر القوة تدعى الاتحاد السوفياتي ستنهار فجأة وتختفي عن الساحة الدولية تاركة خلفها تداعيات كثيرة وفراغات أمنية وسياسية لا تحصى ولا تعد؟ ومن كان يفكر في تلك الأيام أن انهيار المعسكر الاشتراكي سيكشف عن موجة ايديولوجية يمينية متطرفة ستضرب العالم من أقصاه إلى أقصاه؟ ومن كان يضع في حساباته أن موسكو ستتخلى عن اتحادها السوفياتي تاركة الجمهوريات تنفصل وتنفك عنها لتتقدم مكانها واشنطن وتأخذ تلك المواقع المتقدمة من دون ممانعة أو قتال؟ كل هذه الأسئلة وغيرها من أسئلة يمكن وضعها في سياقات مختلفة للقول إن العالم أكبر من قدرة أي طرف كبير أو صغير على السيطرة عليه. فالدول الكبرى تستطيع السيطرة على أجزاء منه وتحديدا تلك الواقعة إلى جوار الدولة أو على ضفافها أو في محيطها... إلا انها لا تستطيع تجاوز حدودها السياسية - الجغرافية من دون اتفاق أو تفاهمات مع الدول الكبرى الأخرى أو مع دول إقليمية تستطيع أن تلعب بعض الأدوار في حدود الإمكانات والطاقات. فالعالم في النهاية كبير ولا يمكن أن يستقر من دون توازن المصالح. وتوازن المصالح نقطة مهمة لاستقرار دول العالم ومن دونه ستبقى الكرة الأرضية في حال فوضى تنتقل من حرب إلى أخرى وما أن تضمن معركة في مكان حتى تندلع في مكان آخر. إذا من الصعب دائما التكهن بالمسارات الدولية وليس بالضرورة أن يكون الاختيار اليوم هو الصحيح غدا. فالمنطق يقول إن الأيام مستمرة وموازين القوى متداولة وربما الأفضل اليوم هو الأسوأ غدا. والعكس صحيح. هذه القاعدة المنطقية مفيدة للقارئ العربي لأنها تساعده على تجاوز الأخطاء التي وقعت سابقا حين تم النظر إلى السياسات الدولية من منظار القضية الفلسطينية العادلة والصراع العربي - الإسرائيلي. فالعالم أكبر والسياسة الأميركية لا تخضع لمثل هذه الثنائية، على رغم أهميتها، في كسب الأصوات أو في تحييد الأصوات لكنها في النهاية ليست الحاسمة في تقرير وجهة السير ولا في تحديد المصالح العليا لدولة كبرى مثل الولايات المتحدة. المفاضلة إذا بين المرشح الجمهوري والمرشح الديمقراطي لا تخضع بالضرورة لمقاييس فلسطينية وعربية وإسلامية. والجيد اليوم قد يكون الأسوأ غدا، والعكس. المفاضلة إذا يجب أن تتجه نحو قراءة مغايرة تضع المسألة الفلسطينية والقضية العربية واحترام الإسلام والمسلمين في الاعتبار وربما في طليعة الاهتمامات إلا أنها لابد أن تقرأ الخصوصيات من ضمن معادلة أوسع تأخذ مجموع النقاط في إطار الموازنة بين جورج بوش وجون كيري. النظرة إلى الانتخابات الأميركية لابد لها أن تبدأ من العام إلى الخاص وليس من الخاص إلى العام. والمفاضلة تبدأ بقراءة المنطق الكبير وكيف ينعكس بطريقة وأخرى على المنطق الصغير. فالدول الكبرى لا تقرأ مصالحها بميزان فلسطين والعرب والإسلام ولكنها تأخذ تلك النقاط الحساسة في الاعتبار حين ترسم استراتيجيتها الدولية. فالمقاييس مختلفة وبالتالي الميزان يختلف بين رؤية القارئ العربي للانتخابات ورؤية الناخب الأميركي للانتخابات. وعلى هذا لا يجوز بناء سياسة عربية «رسمية أو شعبية» وفق مقاييس ضيقة تقرأ المنطق الصغير ولا تلحظ المنطق الكبير «السياسة العامة». مثلا معظم الشارع العراقي يميل إلى فوز بوش في الانتخابات انطلاقا من نظرة خاصة لها صلة بدور واشنطن في إسقاط صدام حسين. فالشارع العراقي إذا صحت تلك الاستطلاعات يقرأ مصير العالم من خلال النظام الاستبدادي السابق ولا يلاحظ تلك التداعيات التي خلفها الاحتلال الأميركي من تقويض الدولة وانفلات الفوضى وظهور العنف وسقوط الضحايا المدنيين «مئة ألف عراقي قتلوا في سنة واحدة» واحتمال تطور الاضطراب الداخلي وصولا إلى شفير الحروب الصغيرة «الأهلية» وانقسام الرافدين إلى دويلات طوائف ومناطق ومذاهب. هذه السلبيات لا يقرأ حيثياتها الشارع العراقي وتحديدا احتمالات توسع دائرة العنف وانتقالها إلى دول الجوار وربما استدراج القوى الإقليمية إلى معارك محلية وصغيرة تنهك قواها وتستنزف مصادرها وثرواتها وأموالها في حروب المستفيد منها هم تجار الأسلحة. كذلك لا يلاحظ الشارع العراقي ان الولايات المتحدة بدأت تتخذ من احتلالها لبلاد الرافدين ذريعة لتقويض أمن «الشرق الأوسط» واستقراره وربما استخدامه لاحقا لحروب مفتعلة ضد دول عربية ومسلمة خدمة لمصالح «إسرائيل» وأمنها. كل هذه التداعيات لا يقرأ الشارع العراقي مضارها في وقت لايزال يتلذذ بمنافع اسقاط نظام صدام الاستبدادي. والأمر نفسه يمكن سحبه على الشارع الكويتي الذي لايزال يرى العالم من خلال أزمته الخاصة التي هبت عليه لأسباب مجهولة حتى الآن في أغسطس/ آب .1990 وعلى هذا القياس الخاص يمكن قراءة الكثير من المواقف الجزئية التي ترتب حساباتها الكبرى بناء على أرقام صغيرة الحجم والوزن. هذا لا يعني أن من حق الفلسطيني واللبناني والسوداني والموريتاني والكويتي والعراقي أن يروا العالم من خلال مصالحهم الخاصة وحساباتهم الصغيرة إلا أن الواقع ليس كذلك. فالعالم يسير وفق منطق مغاير وليس بالضرورة تنطبق حسابات التاجر دائما مع حسابات السوق. فالأسواق عرضة للتقلبات وبالتالي لابد أن تكون الحسابات مرنة في مقاييسها حتى لا تأتي الإحباطات ضخمة على قدر التوقعات. التوقعات دائما يجب أن تكون بسيطة ومتواضعة لأن العالم يتطور ولكنه لا يقفز دائما من مكان إلى آخر. القفزات التاريخية موجودة ولكنها محدودة النتائج على رغم الكوارث الإنسانية التي قد تجلبها ضد هذا الطرف ولمصلحة الطرف الآخر. القفزات موجودة ولكنها ليست دائمة. فهي تحصل كل عشر سنوات مرة مثلا لتعود الأمور إلى مجراها الطبيعي وتبدأ الحوادث تتطور في سياق موضوعي له ضوابطه وقوانينه. قراءة الانتخابات الأميركية يجب أن تحصل في إطارها الطبيعي وتأخذ حجمها العادي بشرط أن ينظر إليها من خلال مقاييس متعددة ومتنوعة ومفتوحة على كل الاحتمالات. وانطلاقا من هذه القاعدة المغايرة يمكن النظر إلى الانتخابات الأميركية على أنها ليست نهاية العالم ولا بداية جديدة له. إنها انتخابات مهمة وحاسمة وتؤثر في الكثير من المعادلات الدولية ولكنها في النهاية محكومة بشروط التطور وقوانين الصراع وضوابط توازن المصالح. فبوش لا يستطيع تغيير العالم وكيري لا يستطيع وقف التحولات الدولية. إلا أن الفارق بين الأول والثاني يجب ملاحظته انطلاقا من إعادة قراءة السياسة الدولية وكيف ينظر الحزب الجمهوري إليها وكيف ينظر إليها الحزب الديمقراطي. العالم كبير إلا أن هذا لا يمنع من الاختيار بين سياستين دوليتين وبالتالي المفاضلة بين بوش وكيري، فالنظرة إلى العالم من زواياه الأربع تساعد كثيرا على تحديد الأفضل على رغم ان كيري سيئ وبوش هو الأسوأ. فالمفاضلة هنا ليست بين الجيد والسيئ، بل بين السيئ والأسوأ. وبوش هو الأسوأ ليس بسبب سياسته الليكودية «الشارونية» في فلسطين، ولا بسبب حروبه الدائمة ضد العرب والمسلمين، ولا بسبب تهديده دول الجوار في أفغانستان والعراق وفلسطين بالمزيد من «الضربات الاستباقية»، وربما بتقويض استقرارها الأمني ونهب ثرواتها. هذه الأمور تأتي في طليعة الحسابات الفلسطينية العربية والإسلامية، ولكنها ليست هي الأسباب الوحيدة التي تفرض مثل هذا الاختيار، بل هناك الكثير من الأسباب المشابهة لها على مختلف المستويات الدولية التي لها صلة بمستقبل العالم وصلته مع الداخل الأميركي. فالعالم العربي «والإسلامي» هو جزء من العالم الكبير ومستقبله ليس بعيدا عن مصير شعوب الكرة الأرضية وبالتالي فإن ما يضر العالم يضر العرب والمسلمين وما يفيده يفيد العرب والمسلمين. وانطلاقا من هذه النظرة الدولية للسياسات الأميركية يمكن الترجيح وبالتالي المفاضلة بين مترشح يؤمن بأنه يصنع المعجزات ومكلف من قبل إرادة إلهية ويعتبر ان تغيير العالم هو مهمة دينية «أصولية مسيحية» لا تأتي من دون حروب وآلام وأوجاع وعذابات وضحايا مدنيين ابرياء «كما حصل في فلسطين وأفغانستان والعراق» وبين مترشح أقل جنونا ويريد البدء من جديد في ترتيب سلوك الولايات المتحدة الخارجي ويميل نحو التفاوض والدبلوماسية في ضبط توازن المصالح من دون إفراط أو تفريط بالحصة الأميركية. هذا على الأقل ما تفوه به كل من المترشحين. أما ماذا سيحصل لاحقا فهذا من الأمور التي يصعب السيطرة على قوانينها منذ الآن. القراءة العربية للانتخابات الأميركية يجب ان يعاد النظر في تفصيلاتها من دون التخلي عن ثوابت اعتاد القارئ العربي النظر اليها من زواياه الخاصة. اعادة النظر ضرورية حتى لا نسقط في الأوهام ونحبط من سوء الاختيار في المراهنات. فالعالم كبير ونحن جزء منه والانتخابات الأميركية مجرد تفصيل في مجرى الزمن الذي لا يتردد في دفع الناس دفعا نحو التقدم والتحول والتغير. فالزمن هو الوحيد الذي يغير ولا يتغير

العدد 792 - الجمعة 05 نوفمبر 2004م الموافق 22 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً