العدد 795 - الإثنين 08 نوفمبر 2004م الموافق 25 رمضان 1425هـ

في وداع رجل تاريخي

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

من حوادث هذا الزمان، يأتيك حادث انتقال الشيخ المرحوم زايد بن سلطان آل نهيان الى جوار ربه، راضياً مرضياً فتهتز له. إلا أن ما خلفه من عمل صالح هو الذي جعل من قادة دول وزعماء على امتداد الكون العربي والإسلامي، ينعونه كما تنعاه شعوبهم، بصدق وحميمية، فقد اتفق الجميع على أن وفاته خسارة، لا يختلف حولها اثنان، ممن عرفوا جهاده وفضله، ولكنها سنة الحياة، والمؤمن يقول: «إنا لله وإنا إليه راجعون».

الشيخ زايد بن سلطان رجل تاريخي بكل ما تعني الكلمة من معنى حقيقي أو رمزي على المستوى المحلي، والعربي والدولي.

في المستوى المحلي، هو رجل بناء، فلقد بنى دولة حديثة لم تكن قائمة. فلأكثر من أربعين سنة بقليل، عندما تولى المرحوم الشيخ زايد دفة قيادة جزء عزيز من بلاد العرب، لم تكن الإمارات العربية المتحدة، كما هي الآن. ذلك أمر متوقع فسنة الحياة والتطور تفرض التغيير، ولكن التغيير الذي تم في الإمارات بقيادة الشيخ زايد هو تغييرٌ لم يكن يتوقعه أحد، أو حتى يتصوره أحد، لولا وعي وتصميم القائد. ويمكن إيجازه من خلال ثلاث مدخلات: سرعته، وطريقة تنفيذه، وأهدافه. وإذا كان ثمة أحد ينحصر فيه وضع التصور لإرادة التغيير، ومتابعة التنفيذ من دون كلل، وتفقد الأهداف وتعديل المسار عندما يحتاج إلى تعديل، فذلك هو الشيخ زايد بن سلطان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة رحمه الله.

في ذلك الوقت، أي قبل نيف وأربعين عاماً، كانت الظروف مختلفة والمشهد السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي في المنطقة ككل - وفي الإمارات على وجه التحديد - مشهد معقد، بل بالغ التعقيد. فثمة تغيرات كانت تحصل على كل الصُعد، خصوصاً السياسية في الدول المجاورة، وكان بعض هذا التغيير عنيفاً وحاداً، بل ومدمراً، لم تشف منه بعض تلك المجتمعات حتى يومنا هذا.

لقد كان يُعتقد أن هناك ثمة تماثلاً بين (إمارات الخليج العربي) وبين (إمارات وسلطنات الجنوب العربي) من حيث التركيب السياسي، والعلاقة مع بريطانيا، كما أن ثمة دولاً في الجوار لها مطامع غير محدودة في الهيمنة المباشرة أو غير المباشرة على المنطقة، وبسبب هذا التماثل وتلك الأطماع، كان يعتقد أن تنسحب على ذلك الوليد السياسي «دولة الإمارات العربية المتحدة»، التي ظهرت إلى النور في مطلع السبعينات من القرن الماضي، ذلك الظل الثقيل والشتات المتنافر الذي أصاب غيرها.

ذلك لم يحدث، كانت الإمارات في كيانها الجديد، تفتقد تقريباً إلى كل شيء من العناية الصحية، إلى المدارس الحديثة، إلى الجيش المنظم والحديث، إلا أنها لم تكن تفتقد عزيمة الرجال لبناء دولة حديثة.

في هذا الجو الملبد بالغيوم السياسية الكثيفة تسلم الشيخ زايد بن سلطان سدة المسئولية في أبوظبي، ثم كرئيس لدولة الإمارات، التي كان كثيرون يراهنون على تفرق الدروب بين حكامها ونخبها، لتسهيل مهمة التشرذم أو الصراع، وتمكين الأطماع من نشب أظفارها.

منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، ظلت دولة الإمارات في سلام ونمو لم يعرفه تاريخ المنطقة في أماكن أخرى، وكان هذا السلام، ومن ثم الأمن، قد مكّن للبناء الاقتصادي والاجتماعي، بقيادة رجلٍ لم يتسن له الكثير من ممارسة السياسة بمعناها السلبي والقدحي، من المناورة إلى التسويف، إلى القول في العلن خلافاً لما يمارس في السر، ولكن تسنّت له الفراسة والوعي بأهمية تلازم التقدم في الإمارات بخطى صحيحة وجدية نحو التغيير، وان يتلازم العمل العربي مع الصراحة والوضوح. وبهذا يُثمن دور الأفراد في التاريخ، فبعضهم يدخله من بوابة كبيرة، هي الإصلاح والتنمية والتقدم، فيحقق ما يؤمن به ويتعلق به شعبه، وبعضهم يدخله ليخرج منه من دون أن يترك إلاّ الدمار لشعبه.

لا يعرف النقلة النوعية التي تمت في دولة الإمارات إلاّ من عرفها قبل أربعة أو ثلاثة عقود، فيقارن بين الأمس البطيء والراكد والمنقسم، وبين اليوم الزاهر والمتحفز والموحد. وبعد كل هذا التغيير الكبير الذي حدث، تستطيع أن تطوف بكل الإمارات في بضع ساعات قليلة على طرق مهيأة ومريحة، تضاهي مثيلاتها في العالم المتقدم، بعد أن كانت بالأمس القريب تحتاج إلى أيام في سفرٍ شاق.

لم يكن الإنجاز الذي تفخر به الشعوب هو إنجاز في البنية التحتية، فذلك مقدور عليه أن توافرت السيولة النقدية، ولكن الإنجاز الحقيقي هو في تدريب البشر، وهو الذي قدر للإمارات في الثلاثين عاماً الماضية أن تقوم بتحقيقه، وتستثمر فيه الاستثمار الحقيقي.

العنصر البشري هو العمود الفقري لأي تطور مجتمعي إلى الأفضل، ولقد طاف أبناء الإمارات بالكثير من المدن والدول، من أجل أن يحصلوا على العلم، قبل أن تهيئ سبله في بلادهم، وتفتح الجامعات ومراكز التعليم العام والخاص، التي يؤمها اليوم مئات الطلاب من الداخل والخارج، يرفدون مجتمعهم كل عام وبتزايد عددي ونوعي، بعنصر بشري قادر ومتعلم وفعال، وكان زايد بن سلطان خلف هذه النهضة الإنسانية.

الدولة التي تحتاج إلى جيش يحميها وشرطة حديثة تعنى بأمنها الداخلي، وموظفين لادارة أعمالها، اعتمدت على هذا السيل المتدفق من أبنائها الذين يتخرجون سنوياً من منابع العلم الكثيرة والحديثة. فأصبحت الدولة اليوم مصدر الكثير من المبادرات الريادية الملحوظة، ليس نسبة إلى جيرانها فقط، ولكن إلى كثير من دول العالم خارج نطاقها الجغرافي. هذه المبادرات تمتد من الاعتماد على التقنية والحكومة الإلكترونية، إلى تجارب الزراعة الحرشية والحديثة، ومن تهيأت له زيارة جزيرة بني يأس، من أجل المثال لا التعميم، والتعرف على الجهود المبذولة فيها، كتجارب يمكن أن تعمم في دولة الإمارات وخارجها، يمكن له أن يتأكد من مستوى هذا الجهد، ودرجته العالية من الإتقان والمثابرة.

وعلى الصعيد العربي أخذت الإمارات في عهد زايد بن سلطان على عاتقها أن تقوم بجهد عربي بالغ الدقة، فقد أعلن على أرضها قيام مجلس التعاون إقليمياً، إلاّ انها أيضاً احتضنت جهداً معروفاً ومحموداً في المجال السياسي وفي المجال التنموي العربي، فقد قدمت الإمارات برعاية من الشيخ زايد المساعدات الاقتصادية، سواء من خلال المؤسسات الرسمية أو شبه الرسمية، أو من خلال الأفراد والمؤسسات الخاصة للمساهمة في التنمية العربية على أوسع نطاق، منها ما هو ظاهر ومعروف، ومنها ما هو باطن يعرفه الخاصة، ولكنه يصب في العمل التنموي العربي دون منة. كما قدمت دعماً لكل القضايا العربية، وعلى رأسها قضيتهم الكبرى فلسطين، فقد كان لها في قلب الراحل الكبير مكان مميز وصادق النية والعزم، على رغم ما مر بها من صعوبات، فقد رعاها تبني المؤمن والواثق بالعدل.

وعلى الصعيد الدولي شقت دولة الإمارات طريقاً يتسم بالصداقة والمسئولية في علاقتها الدولية، فبنى الراحل الكبير علاقات دولية متوازنة، نأى بمجتمعه فيها عن الصراعات، وتعاون مع الجميع بما يحقق النمو لبلده، وأصبحت الإمارات أيضاً ملاذاً لكل عربي ملّ مضجعه في بلده، بسبب سياسي.

وفي الوقت الذي يتطلع أبناء الإمارات، ومعهم إخوانهم العرب، إلى أن تخطو الإمارات على خطوات مؤسسها وبانيها، ليحدوهم الأمل في جيل جديد يتسلم المسئولية الكبيرة، محافظاً على تراث ثري للراحل الكبير، طيب الله ثراه، وهو أمر سيرقبه الجميع في عصر مليء بالمتغيرات المتسارعة.

رحم الله الفقيد الشيخ زايد بن سلطان، فقد فاضت أعماله الجليلة لأهله ووطنه الكبير، وعزاؤنا لأهلنا في الإمارات

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 795 - الإثنين 08 نوفمبر 2004م الموافق 25 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً