العدد 809 - الإثنين 22 نوفمبر 2004م الموافق 09 شوال 1425هـ

يحرق نفسه ليلفت نظر رئيس القبيلة في أميركا!

ذلك «العنسي» التعس

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

في المركز الرئيسي لوكالة المباحث الأميركية تعرض رسالة قديمة كتبها جورج واشنطن، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، وتاريخ الرسالة هو الثلث الأخير من القرن السابع عشر. كتب جورج واشنطن لأحد أصدقائه الثوريين، عن شخص ثالث ينصح فيها أن يَبقى ذلك الشخص في وظيفته الرئيسية، ويستمر في العمل مخبراً سرياً. وتعتبر وكالة المباحث الفيدرالية كما شهد مديرها العام أخيراً، أن جورج واشنطن بسبب تلك الرسالة هو أحد مؤسسي فلسفتها ونظرتها إلى العمل السري، وقد كان شعارها المعلن دائماً لمنتسبيها هو: «تحقيق أقصى أمن لشخص المُخبر، وأقصى استفادة للوكالة»!

المعلومات السابقة متاحة لمن يريد أن يعرف من خلال شبكة الإنترنت الدولية، وليس سراً من الأسرار، إلا أن الأخ محمد العنسي من اليمن، لم يتعرف إلى تلك الفلسفة ووقع في هوة الشق بين الثقافتين العربية والأميركية إن صح التعبير في هذا المضمار، فقد وقف أمام البوابة الشمالية الغربية للبيت الأبيض في الأسبوع الماضي، وأشعل في ملابسه النار، احتجاجاً على علاقته (المفروض أن تكون سرية مع الوكالة) وأراد أن يحرق نفسه بالكازولين، أمام رئيس الجمهورية الأميركية، لأن الوكالة لم تكن «وفية» معه! الأستاذ العنسي يتحدث هنا عن الوفاء كقيمة مستقره في ثقافته، بصرف النظر عن أخلاقيات العمل الذي قام به!

وعلى ذمة الرواية الصحافية حتى الآن، فإن محمد العنسي، المهاجر اليمني إلى الولايات المتحدة، قد ساهم في استدراج الشيخ محمد المؤيد من اليمن إلى ألمانيا، حيث قبض عليه هناك مع مرافقه، وسُفر إلى الولايات المتحدة تحت تهمة (تمويل الإرهاب لكل من القاعدة وحماس)، وقد أقنع الشيخ المؤيد عن طريق العنسي، أن هناك شخصاً أميركياً يريد أن يساهم في دعم القاعدة، ولديه مال كثير يريد التبرع ببعض منه، فاتجه الشيخ المؤيد إلى ألمانيا كي يقع بعد ذلك في مصيدة!

على رغم سذاجة القصة بكاملها كما أعلنت، فإن العنسي قد أخذ على خاطره كثيراً، واختلطت في ذهنه ثقافتان اختلاطاً مرضياً، فهو توقع أن «يكافأ» حتى يصبح مليونيراً من مهمة الوشاية التي قام بها، ولعله قد شاهد كثيراً من أفلام المغامرات الأميركية التي ينتهي فيها البطل بالعيش في فيلا على مشارف هوليود وبحمام سباحة فاخر، وسيارة من آخر طراز تنتظره على الباب، بعد أن يؤدي المهمة بالتمام! كما أن طريقة احتجاجه تؤكد هذا الخلط الثقافي، فهو يحتج بمحاولة قتل نفسه أمام (الرئيس) الأميركي، يحسبه رئيساً لقبيلة، لا رئيساً لدولة تعمل من خلال مؤسسات. ولم يعرف الرئيس ولن يعرف من هو العنسي في سنواته الثماني في السلطة على الأكثر، التي لا تزيد يوماً واحداً!

لقد حاول العنسي جاهداً أن يطابق، في ذهنه على الأقل، صورتين لا تنطبقان على بعضهما إلاّ في ذهن بالغ التشوش، فهو في ثقافته التي يعرفها (وأعني بها هنا السلوك وتوقع السلوك من الآخرين) أن من وشى بمن تريد الأجهزة إلقاء القبض عليهم متلبسين (حقاً أو باطلاً) فله مكافأة مجزية، لا يترتب عليها شهادة أو أخذ ورد، فهو واشٍ من خلف الصورة، لا شاهد من أمامها، أما إذا تعقدت الأمور، لسبب أو لآخر، فإن كل الذي عليه أن يتجه إليه هو «ولي الأمر» كي يعرض عليه مظلمته من الأجهزة فينقذه منها!

الأغرب أن الوكالة كما تقول القصة الصحافية قد صرحت بعد متابعة للموضوع من قبل الصحف، أن سياستها لا تسمح بإعلان (أسماء المخبرين المتعاونين مع الوكالة) إلا أن العنسي قد تحوّل من «مخبر» إلى «مبتز» في تصور ساذج أنه يضغط على الوكالة أمام ولي الأمر! فكل ما حلم به من مالٍ وامتيازاتٍ لم تصل إليه وتدخل حسابه المصرفي، كما أن كشف اسمه وطبيعة عمله باتصاله بالصحافة للضغط على مشغليه، قد عرضه لمخاطر تستوجب رفع المكافأة من وجهة نظره! والأنكى أن كل ما قام به من توريط لآخرين ربما يكونون أبرياء من كل ذنب، كان بسبب «ثأر» قديم حدث في قريته في اليمن منذ زمن بين عائلته وعائلة الشيخ الموقوف.

تقول الصحف إن محمد العنسي، وربما كان اسمه محمد الحضرمي، أراد أن يقدم احتجاجاً معلناً على «عدم الوفاء» من قبل الوكالة، إلا أن الموضوع أعمق من الشكل.

فلقد استطاع العنسي أو الحضرمي أيا كان اسمه، أن يحصل على صورة له في الصفحات الأولى من الصحف الغربية والعربية، وهو يقوم بمحاولة حرق نفسه، إلا أن القصة بكاملها تدل على واقع مرير فيما يسمى اليوم الحرب على الإرهاب. فاللهفة التي تبديها عناصر الوكالات الأمنية الغربية للحصول على معلومات، أية معلومات تزين بها ملفاتها، وقصص أية قصص تبرر مصروفاتها الضخمة، كي تبدو فيها أمام رؤسائها وهي منتصرة ومزهوة، بصرف النظر عن نضج هذه المعلومات أو طريقة الحصول عليها، أو عدد الأبرياء الذين يقعون ضحية لها.

ومن الجانب الآخر تدل العملية على تكالب غير عقلاني للحصول على مكافآت مما ترصده هذه الوكالات، وتعلن عنه من أموال ضخمة، في بيئات تئنُ من الحاجة، ويفقدها الفقر الكافر أو الجشع البشع الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية، إلى درجة تدبيج القصص الخيالية، واتهام الأبرياء ظلماً، طمعاً أو خوفاً أو ابتزازاً.

إنها حال تنبئ عن البؤس الذي وصل إليه البعض في الجانبين من هذه الدنيا التي تحول الإرهاب ومطاردته إلى صناعة، تماثل صناعات المافيا، ولها ضحايا لا يسألهم أحد عن أي ذنب جنوه، أكثر مما يوقع عليهم العقاب الصارم، وفي بعض الأوقات كما حدث للمواطن العنسي يوقع العقاب على نفسه إلى درجة الحرق

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 809 - الإثنين 22 نوفمبر 2004م الموافق 09 شوال 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً