العدد 812 - الخميس 25 نوفمبر 2004م الموافق 12 شوال 1425هـ

تراجع الفلسفة وفشلها

الفكر العربي - الإسلامي بين العقل والنقل (4)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

لماذا فشل مشروع الجمع بين الشريعة والحكمة؟ هناك الكثير من الأسئلة المسكوت عنها في التراث العربي (الإسلامي) تتعلق بكيفية صعود تيار الفلسفة وهبوطه، والعوامل التي ساهمت في نموه التصاعدي وسقوطه السريع بعد فشل محاولات التلفيق التي لجأ إليها مستفيداً من دعم الدولة في فترات معينة، ومستغلاً ظروف التناحر الداخلي الذي حصل في بعض المحطات الزمنية وخصوصاً حين اشتبكت القوى وتداخلت مصالحها نتيجة تبعثر المراكز التقليدية عقب الفتنة الكبرى وإمامة الخليفة الرابع.

ومن أبرز تلك الأسئلة ذاك المتعلق بفشل محاولات التوفيق بين الشريعة والحكمة. والسؤال: هل جاء الفشل بعد تراجع تيار الفلسفة في مواجهة تيار الفقه، أم أن الفشل سبق التراجع؟

عن السؤال هناك أجوبة متعارضة تتراوح من نظرية «المؤامرة» إلى دور السلطة في «محاربة الفلاسفة» إلى تحالف الفقهاء والعلماء في تشكيل جبهة متراصة ومضادة لمواجهة الاختراقات «الايديولوجية» المركبة من منابت فكرية يونانية وفارسية وهندية وبقايا موروثات محلية (متحجرة) تسربت من حضارات سابقة.

لاشك في أن مختلف التفسيرات المذكورة غير دقيقة بل مردودة زمنياً. فالعكس هو الصحيح، إذ إن معظم السلطات بذلت الكثير من الجهود لمحاربة العلماء والفقهاء والقضاة، بل إنها تعاونت في حالات كثيرة مع «أهل الفلسفة» لمواجهة شعبية الفقهاء مستخدمة أفكارهم لقمع المعارضة الجماهيرية التي قادها العلماء.

فالمؤامرة كانت، ولاتزال إلى أيامنا، معكوسة. فأهل السلطة عموماً أقرب إلى هوى بعض المنظرين الفكريين أو السياسيين الذين يزينون للحاكم محاسن الدنيا، وهو أمر لا يتوافر عادة لأهل الدين والتدين. وتاريخياً حصل ما هو حاصل في بعض البقاع اليوم، فالسلطة عادة تتقرب من الذي يطلق باب الشهوة أمامها ولا تميل إلى الجهة التي تكبل الأهواء بالحلال والحرام. وبالعودة إلى وقائع التاريخ نرى أن «النديم» ظاهرة اقتصرت على أهل الهوى والفلسفة، فهم الندماء والدهماء بينما الفقهاء والعلماء هم الفئة المعزولة عن دائرة السلطة ولا تدخلها إلا في حالات الجهاد والإصلاح والإحياء وهي عموماً ظاهرة مؤقتة تزول بزوال حاجة الحاكم إليها.

وعلى هذا يمكن قياس الغائب بالشاهد أو الشاهد بالغائب لإعادة قراءة التراتب الزمني للصراع بين تيار فلاسفة الفقه وتيار فقهاء الفلسفة. فالمعركة لم تندلع مرة واحدة وعلى مختلف المستويات، بل إنها تطوّرت وارتقت من محطة زمنية إلى أخرى وفي كل مرة تشكّلت أدوات معرفة للممانعة أو التوفيق (التركيب). فالمعتزلة مثلاً بدأت مجموعة معزولة فكرياً وتحوّلت إلى تيار فكري - كلامي ثم تطوّرت إلى شبكة من المدارس الكلامية - الفلسفية ثم توزعت وانتهت أخيراً إلى فرق متناحرة تمذهبت على درجات متفاوتة في ابتعادها أو اقترابها من الشريعة.

إلى الفكر تطوّرت حركة الاعتزال سياسياً من مجموعة معترضة على السلطة إلى تيار متشعب في رؤيته للدولة إلى هيئة سياسية متحالفة مع الحاكم (تحاكم وتردع وتمتحن كل المخالفين لرأي السلطة) لتسقط أخيراً بانقلاب داخلي ساهم في بعثرتها إلى فرق تقذف بعضها بعضاً بأفكار لا رابط يجمعها أو يوّحدها للدفاع عن مفرداتها الأولى.

إلى الاعتزال كانت ظاهرة «إخوان الصفا» وهي أشبه بحركة سرية أيديولوجية جمعت أفكارها من كل حدب وصوب وحاولت مزجها أحياناً ودمجها في أحيان أخرى بالشريعة، مستخدمة «الانتقائية» لتبرير هذا الموقف أو تفسير تلك الحال. ومن يقرأ أعمال «إخوان الصفا» يجد تناقضات لا حصر لها بين الرسائل وأحياناً في الرسالة الواحدة. فأفكار الإخوان أشبه بمزيج غير موحد لآراء مجمعة من مختلف المدارس التي كانت تحيط بالمنطقة (دولة الخلافة العباسية). فحركة الإخوان (الصفا) جمعت بين تيار إسلامي أصولي إلى تيار تأويلي يفسّر الآيات على هواه إلى تيار فلسفي استقى أفكاره من مدرسة حران وفلسفة فيثاغورس (علم العدد) إلى غيره من آراء ونظريات هرمسية ومانوية. وكانت النتيجة خلطة غير موفقة من أفكار فوضوية لا يجمعها نظام ولا توحدها رؤية.

إلى المعتزلة و«إخوان الصفا» سار إلى جانبهما وبعدهما الكثير من الاتجاهات التي قادها بعض الفلاسفة من الكندي والرازي (أبوبكر) إلى الفارابي وابن سينا وصولاً إلى المجموعة الأندلسية الثلاثية (ابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد). فهؤلاء عانوا ما عانته المعتزلة وحركة الإخوان من قلة الإبداع وكثرة التأليف فساقوا الأفكار وجمعوها من دون تركيب وتوفيق. وأدى طغيان الانتقائية والتجميعية إلى توليد حالات من التفكير لم ترتفع إلى منظومة فلسفية متماسكة. وبسبب الخلل المذكور احتوت الفلسفة الشريعة أو على الأقل، سارت إلى جانبها في خطين متوازيين وغير متصلين.

في مواجهة هذا الخليط المتنافر والمتهافت نجح تيار الفقه (فلاسفة الفقه) في تكوين منهجيات وتأسيس مدارس أهّلت العلماء لاحقاً لاحتواء الفلسفة وتطويع أدواتها ومعارفها لخدمة الشريعة. فهذا التيار لم يلجأ إلى التجميع والانتقائية ولم يلّفق الأفكار ويخلطها بل اتبع أسلوب الاحتواء من خلال تحصين العقيدة وتفكيك عقائد خصومها وصولاً إلى تحطيم آلياتها. فتيار الفقه كان أقوى في منظومته الفكرية وأكثر كفاية من تيار الفلسفة فانتهى الأول إلى استيعاب الثاني واحتواء معارفه، وفشل الثاني في تكوين استقلالية ذهنية تعبّر عن رؤية أصيلة للكون والحياة والإنسان.

إلى ذلك، كان تيار الفقه ابن عصره ومسيطراً على لحظته الزمنية، الأمر الذي ساعده على ربط النظرية بالممارسة والفكر بالعمل والصلاة بالفلاح. وهو ما عجز عنه تيار الفلسفة، إذ بقي يغرّد خارج زمنه ويطير في فضاء نظري لا صلة له بالواقع والحاجات العملية للناس فتلاشى تأثيره قبل أن يتراجع وفشل في مهمته قبل أن يبدأ نجمه بالغياب من سماء العالم الإسلامي

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 812 - الخميس 25 نوفمبر 2004م الموافق 12 شوال 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً