العدد 818 - الأربعاء 01 ديسمبر 2004م الموافق 18 شوال 1425هـ

النووي الإيراني... لعبة العضّ على الأصابع الى أين؟

فكتور شلهوب comments [at] alwasatnews.com

الإيرانيون بارعون في اللعبة الدبلوماسية بقدر براعتهم في حياكة السجاد وتجارة البازار، منهم مشهود لهم باتقان هذا الكار، لديهم مهارة في التفاوض والمساومة، نفسهم طويل ومتمرسون في فن الاخذ والرد. يحسنون توظيف أوراقهم من دون تهور. ويجيدون التراجع عن حافة الهاوية من دون خسارة ماء الوجه. وملف مشروعهم النووي يشهد لهم.

لكن لهذه الشطارة حدود يفرضها توازن القوى، بالنهاية إيران كانت الطرف الذي صرخ أولا في الجولة الأخيرة من لعبة العض على الأصابع مع واشنطن - من خلال وكالة الطاقة الذرية - بشأن مسألة تخصيب اليورانيوم، فقد وافقت على وقف عملية التخصيب كليا. في الواقع رضخت، ولو من غير انبطاح، سلمت بالمطلوب مقابل تحقيق ما رأته أولويات في الوقت الراهن، حماية المنشآت النووية - الافلات من تجرع كأس العقوبات الاقتصادية - وقبل كل شيء حماية النظام بهذه المقاييس نجح الايرانيون حتى الآن ولو رضخوا. كما استبقوا الى جانبهم جبهة واسعة من الاصدقاء، أو على الاقل من اللاأعداء جبهة اعدائهم بقيت مقتصرة على أميركا و«إسرائيل» في هذه اللحظة.

لكن هل انتهت مشكلة الملف النووي الإيراني؟ واذا لم تنته، فإلى أين؟

بدأت عناصر الأزمة تتجمع وتتراكم مع وضع هذا الملف فوق نار حامية أواخر ربيع العام 2003، يومذاك طالبت «وكالة الطاقة الذرية» إيران - وكانت البصمات الاميركية واضحة على الطلب - بالموافقة على تفتيش منشآتها النووية بلا قيود والسماح لها بأخذ عينات من الهواء والماء والتراب من المواقع المشتبه بها لتخصيب اليورانيوم، مع ان الوكالة لم توجه أي مأخذ جدي على المشروع الإيراني.

رفضت إيران الطلب مع تأكيد مواصلة تعاونها مع الوكالة واخذ الجدل يحتدم بشأن الموضوع الى ان حددت الوكالة آخر أكتوبر/ تشرين الأول من ذلك العام موعدا نهائيا لطهران، كي تضع كل أوراقها النووية على الطاولة.

وبدا الموعد بمثابة التمهيد لإحالة الملف الى مجلس الأمن، يعني فرض عقوبات اقتصادية على إيران لو امتنعت.

بذلك بدا وكأن هناك خطة لتكرار السيناريو العراقي ولا شك ان طهران أدركت جدية الاستهداف ووجدت نفسها امام خيارين: إما اعتماد النموذج الكوري الشمالي، بعد اعلان الانسحاب من وكالة الطاقة، وإما الدخول في معركة دبلوماسية لشراء الوقت وعلى أساسه تقديم التنازلات بالتقسيط ومن خلال عملية مقايضة، ولو كانت غير متكافئة، من أجل نزع الذرائع وتنفيس الأزمة.

في ذلك الوقت كانت في واشنطن مدرستان، واحدة تدعو الى «احتواء» إيران ومشروعها بالحوار والحوافز والتعاون مع الأوروبيين - من رموزه برنت سكاوكروفت مستشار بوش الأب - وثانية تحبذ سياسة العصا مع طهران.

في الوقت ذاته بدأ الخطاب الايراني يكشف عن تذبذب يشي بميل نحو ترجيح كفته الخيار الثاني. صحيح ان طهران ردت آنذاك بالرفض للمهلة على أساس انها «غير مشروعة ولا قانونية ولا عملية» وان الحملة ضدها لها طابع سياسي، لكن في الحين ذاته قالت انه «حتى لو كانت جميع المزاعم صحيحة فإنه ليس من الممكن اصلاح العيوب خلال المدة المحددة»!

كلام انطوى ضمنا على الإقرار بوجود مخالفات كما على الاستعداد للتجاوب شرط تمديد المهلة.

مع دخول شهر أكتوبر ارتفعت وتيرة الضغوط، أوروبا انذرت بإعادة النظر بالعلاقات مع إيران اذا رفضت الاستجابة، واشنطن حذرت بأنها الفرصة الأخيرة، مدير وكالة الطاقة محمد البرادعي دعا طهران للاستجابة بسرعة، كل ذلك رافقه تجديد الإنذار وتأكيد الموعد.

قبل نهاية أكتوبر وافقت إيران على البروتوكول الملحق الذي ينص على التفتيش المفاجئ وفي أي مكان، وذلك بعد ان كانت قد اعترضت على ذلك باعتباره «يمس بالسيادة الوطنية» برغماتية في التعامل يغطيها تشدد في الخطاب كما وافقت على تعليق تخصيب اليورانيوم وأخذ ذلك صيغة الاتفاق مع الوفد الثلاثي الأوروبي (الفرنسي الالماني البريطاني) آنذاك إلى طهران.

غير انه كان من الواضح أن ما تم التوصل اليه لم يكن اكثر من ترحيل الأزمة إلى وقت لاحق.

إدارة الرئيس بوش، الواقفة حينذاك على عتبة الحملة الانتخابية والمحشورة بالملف العراقي، رأت في الاتفاق صيغة مناسبة لشراء الوقت ايضا فهي - أي الصيغة - تترك المشكلة مفتوحة ولو مجمدة بصورة مؤقتة، وواشنطن تريد العودة اليها بهدفين: عدم السماح للمنطقة بكسر الاحتكار النووي الاسرائيلي، وثانيا هي تريد رأس النظام الإيراني الذي لا ترتاح إليه.

«إسرائيل» من جهتها واصلت خطاب التهويش ازاء الخطر الايراني المزعوم. سربت تهديدات الى طهران وصحفها تحدثت فيها عن وجود خطط لضرب مفاعل بوشهر وغيره.

بقيت الأزمة معلقة بين المراوحة والتسخين. تواصل التفتيش بصورة روتينية، والانشغال بمعركة الرئاسة الاميركية، حجب سيرة النووي الايراني وحال دون تسخينها الى ان برزت قصة المعدات الملوثة بغبار نووي والذي زعمت ايران ان التلوث حصل في الخارج، مصدر هذه المعدات، ومرة اخرى اعطيت ايران مهلة، انتهت في 24 من الشهر الماضي، لاعلان موافقتها والتزامها بوقف تام لتخصيب اليورانيوم. وقبل اسابيع من حلول الموعد عادت السخونة الى الملف. لكن هذه المرة بدرجة حرارة أعلى. واشنطن انتهت من الانتخابات وفاز بوش بالتجديد فعادت الى ممارسة الضغوط بهدف احالة الموضوع الى مجلس الأمن لفرض عقوبات على إيران. بالمقابل تجددت الحركة الأوروبية ونشطت وبمباركة أميركية ضمنية وبدأ ماراثون المفاوضات مع طهران التي ادركت أنه لابد ان اللعبة الدبلوماسية في هذه المرحلة بلغت او اقتربت من نهايتها، لذلك كانت تشد وترخي في عملية معقدة لكن مآلها محكوم بنتيجة معروفة وافق وفدها على وقف التخصيب وارفقت موافقتها بعبارة «كله تقريبا» بدلا من عبارة «بالكامل» مع الترويج الى انها اقدمت على هذه الخطوة «طوعا» (!) للتدليل على حسن النية وان الوقت «مؤقت» وغير ملزم قانونا وفي الوقت ذاته انتزعت الاعتراف بحقها في التخصيب للاغراض السلمية، مجلس الشورى الايراني الذي يسيطر عليه المتشددون المحافظون ابدى اعتراضه وأثار ضجة ضد هذا التراجع، كبار المسئولين اعطوا تصريحات مشددة من نوع ان ايران «لا تخاف أميركا» ولا تخشى التهديدات وغير ذلك من الكلام الموجه الى الداخل كتغطية لخطوة وقف التخصيب. وفي آخر لحظة حاولت طهران تحسين الصفقة من خلال اشتراطها استثناء عشرين جهاز طرد مركزي للتخصيب من وقف العمل بها، لكن في النهاية رست الامور حيث كانت محكومة بأن ترسو: موافقة ايرانية على وقف «كامل» للتخصيب.

وبذلك بقي الملف في عهدة وكالة الطاقة وفوتت ايران فرصة إحالته إلى مجلس الأمن. وكل فريق ناله شيء من الكسب. أوروبا كسبت دبلوماسياً. إيران خرجت سالمة من الجولة ولو مع تجميد مشروعها، إدارة بوش رأت ان ما تم التوصل اليه يلبي مطلبها في وقف السعي الايراني لامتلاك السلاح النووي، كما يعفيها في الوقت الراهن من تصعيد هي بغنى عنه لانهماكها بمعالجة الالتهابات العراقية لكن الكل في الوقت نفسه يدري ان الاتفاق يؤجل اكثر مما يقفل الملف، فهو سريع العطب وفيه فجوات ومفتوح على الانهيار ولاسيما ان واشنطن ابقت سيف الاعتراض مرفوعا فوق عنقه بالاضافة الى انها تعمدت الاشارة الى ذرائع اخرى قد تستخدمها في اللحظة المناسبة مثل كلام الوزير باول عن مشروع صاروخي إيراني لحمل رؤوس نووية، وكذلك الحديث عن منشآت ايرانية نووية سرية، علما أن التفتيش ذاته ليس ضمانة حتى ولو جرى على ما يرام، فهل شفع للعراق؟ ولاسيما ان ايران تقف على عتبة الانجاز النووي والنوايا الاميركية ازاءها معروفة ناهيك عن الإسرائيلية. كذلك النوايا الايرانية، وهي مشروعة في ضوء التوازنات الاقليمية المحيطة بها، حتى ولو كانت مخالفة لدستور وكالة الطاقة الذرية، فطالما تمتلك «إسرائيل» السلاح النووي فإن محيطها لابد ان يمتلكه بصورة أو بأخرى كما قال مرة الرئيس نيكسون قبل وفاته بأشهر قليلة

العدد 818 - الأربعاء 01 ديسمبر 2004م الموافق 18 شوال 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً