العدد 831 - الثلثاء 14 ديسمبر 2004م الموافق 02 ذي القعدة 1425هـ

هل هي قضية الرجل أم الشعب؟

حسن أحمد عبدالله comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

ربما يحتاج العربي الى أكثر من دماغ ليستوعب ما يجري حوله، وكيف تتسارع الحوادث بشكل لم يسبق له مثيل فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية؟ اذ لم تمض ايام على موت الزعيم الفسلطيني ياسر عرفات حتى انطلقت العملية السياسية وبدأت الاتصالات من هنا وهناك، وبات الحديث عن القضية الفلسطينية اشبه بالحديث عن خلع ضرس مريض، وكأن القضية الفلسطينية برمتها كانت ملكا للرئيس الذي امضى آخر ايامه محاصرا تماما كما بدأ رحلة نضاله مطاردا ومنفيا، وكأن بحر الدم الفلسطيني وجبال الجماجم وقوافل الاسرى وحشود الثكالى والمكلومين كلها كانت (كومبارسا) في مسرحية تراجيدية.

إذا كان ياسر عرفات هو الذي منع التسوية من أن تكون على حساب الشعب الفلسطيني ولم يتخل عن القدس أو عما كان قد توصل اليه في المفاوضات مع الاسرائيليين، فإن الامر يدعو الى التأمل كثيرا في واقع القضية الفلسطينية وفي الواقع العربي ككل، والنظر في حقيقة ما نهدره من وقت ومال وارواح في سبيل التردد والتأجيل وعدم الركون الى الحقائق.

أتخيل الآن فلسطينيا شردته مأساة العام 1948 وفقد ابنه في حرب العام 1967 وحفيده في حرب العام 1973 وابنته في الانتفاضة الاولى وحفيدته في الانتفاضة الثانية، وفقد شقيقه في القصف الاسرائيلي لقواعد الفدائيين في جنوب لبنان وابن شقيقه في مجزرة صبرا وشاتيلا، وقبل ذلك خسر اخاه الثاني في حوادث سبتمبر/ ايلول العام 1970 في الاردن، وخسر بيته الاول في حيفا أو يافا أو أية قرية أو مدينة فلسطينية احتلت العام 1948، وخسر بيته الثاني في الأراضي التي احتلتها «اسرائيل» العام 1967، وخسر... وخسر إلى آخر ما يمكن للمخيلة أن تنتج، وفوق كل هذه الخسائر نقول له: عليك الآن ان تنسى حق العودة! والسؤال: ماذا سيفعل بمفتاح البيت الذي صر عليه شغاف القلب كل هذه السنوات على امل العودة الى بيته، او اقله ان يدفن في ارضه التي خسر من اجلها كل شيء؟ مما لاشك فيه أن هذا الرجل سيجعل من المفتاح اداة انتحار ويقتل به نفسه، وبذلك يكون المفتاح (الرمز الذي فيه حق العودة ينام قرير العين) قد تحول الى مخرز يفقأ عين الحق من أجل ارضاء الباطل لأن التسوية تتطلب ذلك.

يقول وزير خارجية «اسرائيل» السابق شلومو بن عامي في كتابه «جبهة بلا دعم» اثناء المفاوضات السرية في السويد مع الفلسطينيين العام 2000: «اتضح لنا ومن دون ادنى شك أن ياسر عرفات لن يبدي اي استعداد لاي شيء، سوى التسوية الدائمة والشاملة، إن التسويات المرحلية لا تعني شيئا لعرفات فقد سئم استمرار الاحتلال والمستوطنات والسيطرة الاسرائيلية المستمرة تحت غطاء التقدم التدريجي نحو التسوية الدائمة». ويضيف بن عامي: «في حوار شخصي مع عرفات في مدينة نابلس قال لي: لست مستعدا لتأجيل موضوع القدس لعامين، بل لا يمكن تأجيله حتى لساعتين. ولذلك فهو لن يمضي جديا في التسوية قبل الحصول على ضمانات بحجم ما يعتقده الرجل».

عرفات اراد أن تكون المكاسب من التسوية توازي الحد الادنى من التضحيات التي بذلها الشعب الفلسطيني في سبيل استعادة حقوقه المسلوبة بعد أن ييس هذا الشعب من كل الشعارات العربية التي عاش عليها منذ مطلع القرن الماضي حتى اللحظة التي بدأت فيها المفاوضات مع «اسرائيل»، لكن هذا الشعب الذي بات على اقتناع بالتسوية السياسية لم يتخل يوما عن الثوابت التي بات من الواضح الآن أن التخلي عنها تحت شعار التغير الجذري بعد رحيل عرفات هو الأكثر حضورا في الذهنية السياسية الرسمية لسبب بسيط جدا هو أن الصبر نفد وأن الراعي الكبير للتسوية يرى ضرورة في اغلاق هذا الملف، والواقع أن جائزة نوبل للسلام ووهم الحصول عليها هي التي باتت تحرك الجميع حتى صانع قرار القوة العظمى في العالم.

والشعب الفلسطيني اصبح على اقتناع تام بأن اليأس اشترك في المؤامرة عليه، لآن الدول العربية لم تدرك يوما أن القضية الفلسطينية كانت وبالا على العالم العربي الذي لم يحصن نفسه العام 1948 من خلال الدفاع عن فلسطين بالشكل الذي يستطيع فيه حماية مستقبله وتحصين نفسه جيدا امام الاطماع، ولئن كان حدث ذلك لكان العرب الآن يعيشون برفاهية افخم بكثير من تلك التى يعيشها اي شعب في العالم لأن المسألة ببساطة كانت ستنحصر بحرب واحدة لا بسلسلة من الحروب - الهزائم التي كانت دائما تنتهي الى انتصار يتمثل في بقاء الانظمة التي خاضت الحروب وخسرتها، وربما عن قصد احيانا، كما كان يقول احد مجانين قريتنا، كان يشاع بعد كل حرب أو حتى معركة أن انتصارا عربيا تحقق لأن الهدف الاسرائيلي هو اسقاط الخط الذي يمثله النظام وليس الأرض.

وكان من يشيع ذلك يصدق الشائعة الى حد أن السجون كانت تفتح لكل من بقيت في رأسه ذرة عقل ولم يصدق الكذبة، باختصار كانوا يريدون أن يكون الشعب كله أشعب، والى الآن بعض هذه الانظمة يريدنا أن نكون أشعب، واعتقد أن الامر فيه من المبالغة ما يجعله مسرحية من الدرجة الكوميدية الاولى إن استثمرتها هذه الانظمة مسرحيا جمعت مليارات الدولارات. وربما تسد الديون العربية البالغة 500 مليار دولار وهي التي تراكمت بسبب التسلح من اجل خوض حروب التحرير المؤجلة ولاصلاح ما خربته حروب الهزائم المعجلة.

إننا الآن نسير الى التسوية بهرولة لم يسبق لها مثيل، فهل كان ياسر عرفات هو العائق امام شارون الذي يريد ان يستريح كرشه على شاطئ فلسطين بينما هو يتكئ على ضفة نهر الاردن؟ هل كانت القضية الفلسطينية قضية رجل فقط؟ طبعا الاسئلة في العالم العربي كثيرة، لكن دائما الجواب ممنوع... لأنه دائما يتعارض مع الاعراف على رغم انسجامه مع القانون، والاعراف كلنا نعرفها لذلك يصبح السكوت من ذهب قبل الحديث عنها، لكن لابد لسمعان أن «يبق» (يلفظ) البحصة (كما يقول المثل اللبناني) التي في فمه ويسأل: من العربي الذي سيقول للعجوز الفلسطيني: انسَ حق العودة؟

سمعان يقول: ليست الشجاعة أن تقول انت عن نفسك ذلك، إنما الشجاعة ألا تتخلى عن حقك حتى وان اجتمعت عليك كل قوى الأرض، «كلها موتة» وبعد ذلك لا يوجع الضرب.

والعجوز الفلسطيني سيموت ولن يجرؤ أي عربي أن يقول له إنسَ حق العودة، لأن المسألة تحتاج إلى شجاعة، كما يقول سمعان

العدد 831 - الثلثاء 14 ديسمبر 2004م الموافق 02 ذي القعدة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً