العدد 840 - الخميس 23 ديسمبر 2004م الموافق 11 ذي القعدة 1425هـ

«إسبندو فِنيكس»: البحث عن السر واغتيال «عبدالسلام جلود»

حسن الصحاف comments [at] alwasatnews.com

نتيجة لما أقدم عليه زعيم «الجماهيرية العربية الاشتراكية العظمى» العقيد معمر القذافي ومن حذا حذوه من خطوة نحو المصالحة مع الغرب، العدو الأزلي قبل كل شيء ومع نفسه من ثم ومع شعبه في النهاية، وتخليه عن خطه الثوري حظي من خلالها على تأييد من بعض زعماء الدول الغربية (وعلى رأسها أميركا) وقد تم استقباله في بعض منها كما يستقبل الأبطال، وتتمثل تلك الخطوة التي خطاها العقيد في أن تتخلى «الجماهيرية» عن «برنامجها النووي». الخطوة ذاتها نظر إليها في بعض العواصم العربية على إنها خطوة تراجعية تآمرية أتت نتيجة الخوف من المصير الذي وصل إليه «زعيم» آخر، ووطنه الذي يمر الآن في مرحلة صعبة ليس كمثلها في مجرى التاريخ للموقف المتشدد الذي أخذه ضد الغرب وزعامته الرئيسية، الولايات المتحدة الأميركية، وضد العرب «جيرانه» جاءت هذه العجالة.

لقد اطلعت على كثير من الكتب هذه السنة والسنة التي سبقتها، وقرأت كثيراً منها بتمعن وروية. تضمنت قراءاتي كتباً محورها الرئيسي السياسة؛ وكتباً محورها الرئيسي الفن وهمومه؛ وكتباً تبحث في مشكلة الدين عموماً وبعض المشكلات الفلسفية المتعلقة بالدين في عصرنا الحاضر، وخصوصاً المتعلق منها بالدين الاسلامي؛ وكتباً تتحدث عن السير الشخصية التي غيرت مجرى التاريخ ليس سياسياً فقط بل اقتصادياً وروحياً وفنياً؛ وقرأت روايات كثيرة بعض منها لا تستطيع العين أو العقل منها فكاكاً ولا تتخلى اليد عنها قبل الانتهاء من قراءتها، وبعضٌ آخر منها لا يمكنك بأي حال من الأحوال أن تتخلص من النعاس الذي تولده لديك ومن الشعور بالملل والسأم الذي تُدخله إلى أغوار نفسك لضعف جسيم في حبكتها ولغتها الروائية، ولكونها لا تحتوي على ذرة من ذرات الجمال بكل اشكاله وخصوصاً الجمال الفكري أو الإبداعي!

من تلك القراءات الروائية التي تشدك إليها بعنف منذ الصفحة الأولى ولا تستطيع منها فكاكاً أو أن تسقطها من يديك، رواية ضخمة تبلغ مجموع صفحاتها سبعمئة صفحة، باللغة الإنجليزية، للروائي غرغ إليز، بعنوان «إسبندو فِنيكس»، أو كما يلفظها الألمان - على ما اعتقد - «شبندو فينكس» من منشورات «سايجنت»، نشرت للمرة الأولى العام 1993. الرواية وإن كانت تمزج بين الحقيقة والخيال، بين الواقع واللاواقع، رواية ممتازة من ناحية وضعها حقائق تاريخية في صلب السرد الروائي بصورة مبتكرة ومشوقة جداً، ولكونها في غالبية فصولها تمتاز بحيادها التام وإن أظهرت العرب في بعض الأحيان بصورة الشياطين المتأهبين للانقضاض على «إسرائيل»، المخلوق المدلل، وتحطيمه شر تحطيم والقذف به في غياهب التاريخ.

وقد حذر الناشر في البدء على أن هذه الرواية لا تعدو كونها عملاً روائياً يعتمد الخيال الإنساني وإن صادف تماثل في أسماء بعض الامكنة والاشخاص الواردة فيها بأشخاص حقيقيين ذكرهم التاريخ رحلوا عن الدنيا أو لايزال بعضهم يعيش بيننا. إلى جانب ذلك فإن الرواية مُجِدت وأطريت كثيراً من قبل نقاد كثيرين، هنا بعض من صور إطرائها وتمجيدها، تقول عبارات النقاد: «رائعة»، «عمل خلاق»، «رواية عملاقة»، «مثيرة إلى حدّ أن عمقها ونطاقها يأخذانك على حين غرة». «تجوب بك في أغوار التاريخ». وهنا صورة أخرى: «مقنعة»، «تتأمل في أحد أهم متاهات التاريخ»، «مخيفة»، «مليئة بالحوادث والحيرة»، «رواية شخصياتها مشحونة بالديناميكية والحركة».

تتكون الرواية من 46 فصلا وخاتمة، وتبدأ بهذه العبارة التي نطق بها «نابليون بونابرت» وسجلها التاريخ: «ما التاريخ سوى كذبٌ اتفق عليه».

تبدأ حوادث الرواية من المقدمة بتاريخ «العاشر من مايو 1941»، في أوج انتصار ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، من «بحر الشمال» إذ ينعم ذلك البحر بصفاء ورواق وربيع جميل ليس له مثيل، وينتظر بهدوئه هذا قدوم الليل وهطول ظلامه «على قارة تترنح من صدمة الحرب». في هذا التاريخ قارة أوروبا جميعها «كانت مستعبدة». تقف من بين دول هذه القارة «إنجلترا وحيدة ومحاصرة» تقف وحدها ضد جميع الجيوش الكبيرة والكثيرة بقيادة «تشرشل».

في هذا التاريخ وعند حلول الظلام «لندن على موعد مع الموت». ستختفي من الوجود حال «سقوط القنابل عليها» في تمام الساعة الثامنة عشرة. سيكون التاريخ على موعد مع مسمى جديد قديم ليطلقه على «الاعتداء على لندن»: «الهلوكوست» أي المحرقة أو الإبادة الشاملة؛ بيد أن القدر يلعب لعبته وتنجو المدينة التي بدأت تنام للتو، حيث عُزف عن «الاعتداء الصارخ (...) في الثواني الأخيرة من بدء تحققه». من وراء كل الفكر المدمر يقف رجل يدعى أدولف هتلر، في هذه الليلة ومن دون علم جميع مستشاريه ووزرائه ورجال قيادته سيقوم بالعمل البطولي العظيم الذي سيخلده إلى الأبد. لقد قام بمعجزات كثيرة من قبل غير أن عمله الليلة سيتوج جميع إنجازاته ويعلو به فوق الاسكندر ونابليون. الليلة سيغير موازين القوى، ولكي يحقق حلمه عليه أن يفوز بجميع قلوب البريطانيين من دون القنابل. ولقد اختار أسلحته الفتاكة: «الخيانة، الضعف، الحسد، العصبية» الأسلحة الأكثر تدميراً المتاحة للإنسان. غير أن السؤال الذي أرهق الفوهرر وظل يطرح نفسه بقوة: من سيقوم بهذه المهمة المستحيلة والجواسيس يعيشون في رهبة اكتشاف أمرهم والعملاء يخافون القبض عليهم. هتلر يريد رجلاً يُطمئِن الجواسيس والعملاء، يغريهم ويهددهم، يغريهم بجميع مغريات الحياة ويهددهم بتوجيه المسدس إلى رؤوس الجبناء منهم. من يلهم كلا الخوف والثقة بشكل متساوٍ في الرجال. كان هتلر على علم برجل واحد «يمتلك هذه المواصفات وهو في الثامنة والأربعين من عمره، طيار ماهر. وهو يحلق الآن بطائرته في قلب السماء». غير أن الطيار وفي لحظة مهمة من لحظات التاريخ تنفس الصعداء على علو ألف قدم فوق سحب امستردام المتراكمة، إذ يلعب ويراقص الريح طائرته وهو «بين ركام الغيوم»، لا لسبب سوى إنه «تجاوز المنطقة الأكثر خطورة»، هو الآن في «مأمن من جميع اجهزة المراقبة». وخطط لأن يهرب بجلده وعقله ولا يعود، فقد قرر ألا يرى أهله وذويه، قرر الابتعاد وإلى الأبد عن ملاعب الطفولة ومروج الشباب.

كان هذا «قدر إنجلترا وألمانيا، ومن المحتمل أن يكون قدر العالم كله وربما كل شيء يعتمد على المهمة الموكلة إليه. وإذا ما نجح الليلة ستنحني روسيا، تلك الأرض الكبيرة «البربرية المصابة بسرطان الشيوعية» وتخضع «تحت الحذاء» أخيراً».

يتمكّن الطيار من الهرب بطائرته ويصل إلى الدنمارك. لقد نجح. هنا يأتي دور العنصر المهم لخطته السرية. وهبط حسب الخطة في مطار معزول وتم استقباله كطيار لاغير. ظل متلثماً إلى أن حصلت مشادة حول إعطائه أوامر لوضع بعض الزيوت الغليظة في وسائل القذف المدفعي في الوقت الذي يمتنع فيه الضابط المسئول عن تنفيذ الاوامر الصادرة منه ويهدده بالقبض عليه بقوة السلاح. في تلك اللحظة الحرجة يزيل اللثام عن وجهه ويظهر للجميع على أنه وزير الماني يدعى رودولف هس، وأمام هذه الحقيقة يرضخ الضابط المسئول لأوامره ويتحرك بسرعة لتنفيذها.

يطير هيس مع طيار آخر يختاره لمرافقته ويتفق معه على التعاون معه لكون المخابرات البريطانية تعلم بقدومه، ويتفقان على أن يبدأ هو بالهبوط بالمظلة من الطائرة على الارض البريطانية أولاً، وينتظر من بعده لفترة من الوقت حتى يتلقى إشارة منه بوصوله بسلام ومن ثم يترك الطائرة ويفجّرها في الجو أو يتركها تهوى إلى الأرض لتصبح حطاماً. ويقوم هيس بتسليم رفيق دربه الطيار جميع حاجاته المهمة والمعروفة لدى كثير من أفراد المجتمع، وخصوصاً القلادة الذهبية الخاصة بالجماعة المقربة من هتلر. يقفز هيس من الطائرة على الحدود الاسكتلندية. كان على الطيار الآخر عندما تمضي الدقائق الثلاثون الأولى ولا يتلقى الاشارة من هيس أن يبدأ بالعودة إلى البحر وابتلاع كبسولة السم القاتلة التي تنهي حياته وتنهي معها كل صور المعرفة التي في عقله، من أجل الفوهرر ومن أجل ألمانيا. غير أنه وبعد مضي الدقائق الثلاثين لا يفعل ذلك، يقفز من الطائرة ويتركها تنفجر في الجو وتشعله ضياءً.

يهبط الضابط المرافق بسلام على الأرض الاسكتلندية مع إصابته ببعض الكسور في ذراعه الايسر، وحال هبوطه وقبل أن يتمكن من رؤية ما حوله يتلقاه فلاح اسكتلندي يدعى ديفيد ماكلين ويطرح عليه أسئلة عدة منها: «هل هو ألماني؟ وهل كان معه أحد على الطائرة؟» فيجيب بالنفي. قبل الاسكتلندي بالاجابات، بعد ذلك يطلب منه الطيار مقابلة دوق هملتون، لكونه يحمل رسالة مهمة له. لم يتمكن من المقابلة إلا بعد أن وضع في مستشفى أسرى الحرب، وهناك أعلن أمام الدوق الذي قدم ليسمع فحوى الرسالة المهمة بأنه رودولف هيس نائب الفوهرر، رئيس الحزب النازي. في لحظة واحدة جعل من نفسه أشهر أسير حرب في انجلترا، كما هو الحال الآن بأسير الحرب عندنا. وهيس الحقيقي الذي لديه أعظم وأخطر اسرار النازية اختفى ولا أحد يعرف عنه شيئاً، لقد اختفى من الوجود. غير أن الطيار يخفي في أعماقه رعباً أن يكتشف أمره وبأن هيس نجا وهو يقوم بمهمته على أكمل وجه وإنه بعمله هذا سيكون عاملاً على فشل المهمة وسيكون موضع مساءلة من قبل الألمان قبل الفوهرر لقيامه بعمله هذا وربما قُتلت عائلته. لكن لن يقتل أحد عائلته قبل أن يعطى فرصة لشرح موقفه. في النهاية تم نقله بأمر اللورد هملتون إلى مكان سري للغاية ووضع تحت مراقبة شديدة.

هذا ما جاء في مقدمة الرواية. يبدأ الفصل الأول بهذا المثل:

«ناشر الفضائح يبوح بالأسرار غير أن صاحب الروح المخلصة يخفيها» وتدور حوادثه في برلين الغربية العام 1987 إذ تقوم كرة هدم من الحديد ضخمة بهدم البناية الأخيرة التي على يسار أرض السجن. سجن «أسبندو» الذي وقف صامداً لما يزيد على القرن، والذي استضاف أكثر سيئي السمعة من النازيين المجرمين للأربعين سنة الماضية يُهدم في غضون ساعات. آخر سجناء «اسبندو» كان ردولف هيس، وقد أقدم على الانتحار قبل أربعة أسابيع. وقد تعاونت كل من فرنسا وانجلترا واميركا والاتحاد السوفياتي، على هدم السجن حتى لا يصبح مزاراً للنازية الجديدة. لنتذكر سجن «أبوغريب» ونتمنى أن تهدم جميع السجون العربية. في هذه السنة بلغ عمر برلين 750 عاماً.

غير أنه لم يفلت في ذلك اليوم أي إنسان أو حيوان أظهر بشكل ما أهمية بما تبقى من حطام السجن من مساءلة المخابرات وتم تصويره وتسجيل تحركاته من خلال عدسات مقربة، كان هناك الـ «ك. جِ. بِ» يرسلون الصور التي يلتقطونها إلى جهاز كمبيوتر مركزي لتحليلها، وكان هناك الجنود الفرنسيون والإنجليز والأميركان، وكان هناك اليهود المتعصبون والصحافيون الثوريون والنازيون الناجون، وكان هناك جونز سترينز، الذي لم يغادر «اسرائيل» على مدى اثني عشر عاماً، ولم يكن أحد يعرف بوجوده في ألمانيا، فقط بالأمس ترك عشه عندما عرف بهدم السجن، فهو مشهد لا يجب تفويته. وكان هناك «الثيران» (يطلق الألمان على بوليسهم مسمى: «الثيران» وياله من مسمى في مكانه)، وهم بدورهم يجوبون المنطقة.

ضمن هذا الركام يحصل أحد «الثيران» على قصاصة مخبأة في جوف طابوقة تقول ما نصه: هذا اعتراف من السجين رقم سبعة. أنا الاخير الآن، وأعرف اني لن احصل على عفو أو الحرية مع اني استحق الحرية اكثر من أي شخص آخر أطلق سراحه. الموت هو الحرية التي سوف أعرف. اني أسمع اجنحته ترفرف من فوق رأسي. اصلي لأبقى متماسكاً. بين الادوية، الاسئلة، الوعود والتهديد، اتساءل في بعض الاوقات إذا لم أكن حقاً مجنوناً. أتمنى فقط قبل أن تنتهي هذه الحوادث على عالمنا المجنون، سيحصل احد ما على هذه الاوراق ويعرف الحقيقة الغائبة، ليس فقط عن هملر وهايدلرخ والبقية، ولكن عن انجلترا، عن أولئك الذين باعوا شرفها وفي النهاية وجودها لـ ...». وتنتهي هنا القصاصة وإلى هنا يأتي دورنا في إعطاء المزيد حتى لا نفسد على من يريد الاطلاع متعة القراءة.

لست هنا لإعطاء تفصيل كامل عن حوادث هذه الرواية المليئة بالوقائع التاريخية التي عشنا كثيراً منها ضمن عمرنا القصير في الدول العربية أو الأوروبية خصوصا تلك المتعلقة بالقضية الأكثر أهمية للإنسان العربي: فلسطين. غير ان ما دار فيها بشأن التعاون بين عقيد ليبيا القذافي وجماعته مع هيس، ذلك السجين الذي أعتقد بأنه مات منتحراً وشبع موتاً من أجل إنتاج «أسلحة الدمار الشامل»، التي تصور البعض أن قد تنتج عنها حرب نووية عالمية تمحي الجميع من الوجود وكأنهم لم يكونوا؛ كان هدف التعاون الأساسي هو تدمير «إسرائيل» وقد أفشل مخططها اليهود بجواسيسهم وقتلوا جلود والدكتور صبري في جنوب إفريقيا، إذ تم صنع ذلك السلاح الرهيب الذي لم ير النور، فقد قتلت جلود جاسوسة «إسرائيلية».

هذه الرواية تمجد الجاسوسية، وترى فيها عملاً نبيلاً خصوصاً تلك التي هدفها حماية الدولة «المدللة». مع أن السبب الذي من أجله ذهب أو هرب هيس إلى بريطانيا لم تكشفه الرواية إلا أنها أعلمتنا عن التعاون الذي تم بين المملكة البريطانية ومن لفته تحت عباءتها والألمان ربما بينهم هتلر وهيس نفسه. وقد يكون السبب أو السر «إسقاط حكومة تشرشل» وقتله مع الملك.

في هذه الرواية يشترك كل من الألمان والروس والإنجليز والليبيون والأفارقة الجنوبيون والأميركان، ومن ضمنهم المدللون «الإسرائيليون» في عمل جاسوسي فيه من الخيال الكثير، تمنينا لو يوظف على أرض الواقع بهذه المتعة الروائية طبعاً من دون سفك الدماء.

بقي في الختام أن نقول إن المؤلف أميركي ولد في ألمانيا العام 1960 لأب كان يعمل في إدارة العيادة الطبية للسفارة الأميركية هناك ودرس في جامعة المسيسبي، إذ تخرج في العام 1983، وهذه روايته الأولى التي نشرت في العام 1992. وكانت من أفضل روايات السنة تلك لصحيفة «نيويورك تايمز». وله من الروايات من بعد: «الصليب الأسود»، عن المحرقة الألمانية في حق اليهود المسمى «الهولوكوست، «المباراة الهادئة»، «أربع وعشرون ساعة»، «يكفي نوماً»، «مادة سوداء» و«آثار الله». جميعها حصلت على إطراء ممتاز من قبل النقاد

العدد 840 - الخميس 23 ديسمبر 2004م الموافق 11 ذي القعدة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً