العدد 847 - الخميس 30 ديسمبر 2004م الموافق 18 ذي القعدة 1425هـ

حكايات عصر متقلب

الفارابي وقصة «المدينة الفاضلة» (3)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

سيرة الفارابي لا يمكن عزلها عن الفضاءات السياسية والفكرية التي سادت عصره. فالشخص مهما حاول عزل نفسه وامتنع عن التدخل في الحياة العامة ورفض المناصب والرشى إلا أنه يبقى في النهاية ابن بيئته وزمنه. وهذا الأمر ينطبق على كل المفكرين في أي مكان وزمان. والفارابي ليس بعيداً عن التأثر بالمناخات التي صنعت شخصيته وفرضت عليه الظروف اختيار هذا الطريق. فالإنسان في النهاية أسير تحولات ومصادفات تجتمع في لحظات طويلة تاركة للزمن دوره في حفر المسالك التي يمر بها مجبراً في وقت يعتقد المرء أن خياراته مستقلة وقراراته جاءت بالاختيار. فالظروف (البيئة والزمان) هي مصادفات تصنع قدر الإنسان. وقدر الفارابي أنه ولد في أسرة مركبة من والد تركي وأم فارسية. وقدره أيضاً انه سيرث عن أهله ثقافة مزجت بين الواقع والدين وبين روايات منقولة وأخرى مكتوبة.

قبل ولادة الفارابي بحوالي سنتين حصلت مجموعة تحولات ستترك آثارها عليه بعد مولده وطفولته الأولى. آنذاك تأسست الدولة الصفارية على أنقاض انهيار الدولة الطاهرية في خراسان سنة 255 هجرية. وهي السنة التي ازداد فيها تحكم الاتراك بالبلاط العباسي وإقدامهم على اعتقال الخليفة المعتز وقتله. وبعد سنة كرروا اعتقال الخليفة المهتدي وقتله سنة 256 هجرية (869م).

هذه الحوادث السياسية ليست بسيطة مع انها وقعت قبل مولد الفارابي إلا أن تداعياتها ستستمر وتنعكس لاحقاً على هيبة الخلافة وموقعها المركزي ودورها في احتواء الأزمات. فقتل الخليفة ليس حدثاً عادياً بل هو بداية تؤشر على وجود خلل في التوازن بين المركز والأطراف. وهذا فعلاً ما شجع الدولة الطولونية في مصر سنة 256 هجرية على بدء التفكير بالاستقلال عن الخلافة العباسية في العراق، اذ أقدم واليها أحمد بن طولون على بناء مدينة القطائع واتخاذها عاصمة للدولة. كذلك أخذ يخطط لتوحيد مصر والشام بقيادته بعد أن ضعفت بغداد كعاصمة مركزية للمسلمين. ونجح في أمره في العام 265 هجرية.

حركة أحمد بن طولون في مصر لم تكن فريدة من نوعها، اذ شهدت بلاد فارس حركة مشابهة انتهت إلى قيام الدولة السامانية في سنة 261 هـ. وهذه البداية السياسية تركت بصماتها على أسرة الفارابي وحفرت الكثير من العلامات في ذهن طفل استمع طويلاً إلى حكايات الأهل وقصصهم ورواياتهم.

إلى السياسة هناك الفضاء الثقافي، فالفارابي ولد بعد وفاة الجاحظ في البصرة (255 هجرية) بسنتين ووفاة إمام الحديث الامام البخاري في سمرقند (256 هجرية) بسنة.

الجاحظ والبخاري يختصران الكثير من المسائل الخلافية بين المسلمين. فالأول مؤسس مدرسة في الاعتزال ورجل موسوعي العلم والمعرفة وترك عشرات المؤلفات أبرزها موسوعته المعروفة بـ «الحيوان». والثاني يعتبر من كبار علماء الحديث ويعتبر كتابه «الجامع الصحيح» أحد أهم مراجع المسلمين إلى جانب كتب الحديث للائمة مسلم وأبي داوود والترمذي والنسائي وابن ماجة.

البخاري على نقيض الجاحظ الا أن تأثيرهما طاف على عصرهما واستمر إلى فترة طويلة ولا يزال إلى أيامنا. إلا ان الحادث الأهم الذي لا ينسى ولايزال حتى يومنا يثير المخيلة ويفتح الذهن على الأسئلة هو وقائع اختفاء الامام المهدي (ابن الامام الحسن العسكري) سنة 265 هـ (877م) في أحد سراديب مدينة سامراء. فذاك الحادث هز عصر الفارابي وانتشر الخبر في كل مكان وتناقلته الحكايات والروايات. فالامام الثاني عشر اختفى، غاب، سيعود، لابد من انتظاره. عودته أو ظهوره ستقلب الدنيا وتطهر الأرض من الظلم والفساد.

هذه الأجواء عاشها الفارابي ولابد انه استمع إلى الكثير من حكاياتها وقصصها ورواياتها وهو لايزال في الثامنة من عمره. مسألة الامام سنجد أثرها القوي في ذهن الفارابي حين قرر كتابة آراء أهل «المدينة الفاضلة». فالامام هو رئيس المدينة وقلبها.

عاش الفارابي إذاً طفولة مستقرة تحيط بها فضاءات متقلبة تتحدث عن اغتيال الخلفاء في بغداد وقتلهم. وتتحدث عن تشكل دويلات مستقلة عن الخلافة في مصر وبلاد فارس. وتتحدث عن رحيل كبار فلاسفة المعتزلة وأئمة الفقه والحديث. وأيضا تنقل روايات وحكايات مدهشة عن وقائع اختفاء أو غيبة الامام ابن العاشرة من عمره في أحد السراديب في سامراء.

كل هذا حصل والفارابي لم يبلغ العاشرة من عمره. والباقي أصعب. فالحوادث لا تتوقف مادام الزمن. والزمن هو الكفيل بانتاج فضاءات سياسية وثقافية وفكرية تصنع الاساطير والابطال وايضا المفكرين والأئمة والفلاسفة. ففي ذاك الوقت عصفت بالخلافة الكثير من الانقلابات وانشقت منها وعنها الكثير من الدويلات. والدويلات انقسمت على بعضها واجتاحت بعضها وعم الخراب المدن وانتشر الموت في المناطق. فبعد عام الغيبة (اختفاء الإمام) ستشهد الخلافة الكثير من الاطوار الفكرية - الثقافية والكثير من الهزات السياسية القريبة والبعيدة. فبعد تلك السنة سينفجر الصراع بين الأغالبة والدولة الطولونية وسينجح الأغالبة في هزيمة الطولونيين سنة 267 هجرية. وفي السنة التي يموت فيها أحمد بن طولون (270 هجرية) ستبلغ ثورة الزنج مداها في العراق. فهي الثورة التي اندلعت في 251 هجرية واجتاحت البصرة في العام 257 هجرية ثم المدن والقرى وحرّقتها وخرّبتها وهزت أركان الخلافة وحاصرتها وزادت من اضعاف موقعها وهيبتها. هذه الثورة ستنتهي بمواجهات تحصد أكثر من نصف مليون إنسان وبقطع رأس زعيمها علي بن محمد وإرساله إلى بغداد سنة 270 هجرية (882م).

وبعد سنوات قليلة من هدوء عاصفة الزنج ستعود الخلافات لتجدد تقويض استقرار الخلافة بعد وفاة قاهر الزنج الموفق شقيق الخليفة المعتمد. إذ سينشب الصراع في البيت العباسي ويبدأ التنافس على الوراثة. ولعب قادة الجيش دورهم في تأييد الضعيف وتقويته واضعاف القوي وإزاحته. وفي هذه الاجواء المشحونة بالمؤامرات يموت المعتمد فجأة ويأتي المعتضد في العام 279هـ إلى الخلافة، لتبدأ حكاية مصاهرته من ابنة خمارويه (ابن أحمد بن طولون) الطولوني في العام 281 هجرية (892م). فالمصاهرة كانت بإيعاز من الجند بهدف إعادة توحيد العراق والشام ومصر من خلال الزواج. الا ان الامرلم يتحقق حين اغتيل خمارويه في قصره في دمشق في العام 282 هجرية ثم اغتيال ابنه ابي العساكر بعد سنة. فأدى الأمر الى تضعضع الدولة الطولونية في مصر والشام وعودة الخلافة العباسية إلى الانكماش.

بلغ الفارابي الآن الخامسة والعشرين من عمره، يسمع الاخبار الآتية من بغداد ويستمع إلى تلك الروايات التي تتحدث عن المؤامرات والفوضى والانقلابات والانشقاقات. فالفارابي الآن لم يعد ذاك الطفل فهو درس وتعلم وبدأ يعمل في القضاء في فاراب ويفكر أيضاً في الانتقال إلى بغداد لتعلم اللغة العربية واستكمال علومه. الا ان أخبار الخلافة وما يدور في داخل بغداد وخارجها أدى إلى تأخير اتخاذ قراره بالرحيل الى تلك المدينة التي كانت حلم كل إنسان يفكر في التقدم أو الحصول على موقع أو اكتساب معرفة. فبغداد كانت عاصمة العالم ومركزا للمهاجرين والباحثين عن العلم والشهرة والوظيفة.

تردد الفارابي في مغادرة فاراب بسبب اضطراب العلاقة بين العراق ومحيطه وخصوصاً الشام ومصر في عهد الدولة الطولونية. وزاد تردده حين نجح يحيى بن الحسن في تأسيس دولة زيدية (نسبة الى الامام زيد بن علي بن الحسين بن علي) في اليمن في العام 288 هجرية (901م). فهذه الدولة ستعيد احياء الفكر الامامي وستبعث من جديد تلك الآمال التي توقفت باختفاء الامام المنتظر. فقيام تلك الدولة الزيدية في اليمن سيكون له أثره في تعزيز نشاط الدعوة الاسماعيلية وفي بعث فكرة ضرورة عودة المسلمين إلى الالتفاف حول آل البيت. اذ بين قيام الدولة الزيدية في اليمن وظهور الدعوة الفاطمية (نسبة الى فاطمة الزهراء ابنة الرسول وزوجة الامام علي وأم الحسن والحسين) في المغرب ثلاث سنوات فقط. وليست مصادفة أن يكون مؤسس الدعوة الفاطمية في المغرب جاء اليها من اليمن وهو الذي دعا عبيدالله المهدي المقيم في الشام إلى الانتقال الى المغرب والجهر بالدعوة.

ظهرت الدعوة الفاطمية في المغرب في العام 291 هجرية (904م) والفارابي كان لايزال في فاراب يتردد في مغادرتها إلى بغداد التي كانت تعاني من الفوضى والانقسامات وانقلابات القصور وتدخل الجند في شئون السياسة. الا ان تردد الفارابي لا يعني انقطاعه عن فضاءات زمنه وعدم تواصله مع تداعيات تلك الحوادث التي أسهمت لاحقاً في رسم معالم وعيه النظري وتفكيره السياسي. فكل تلك الأخبار والحكايات سنجد ما يحاكيها في كتب الفارابي التي قرأت الزمن فلسفياً ولم تحاول اكتشافه الا في سياق التأريخ الفلسفي للحوادث. فالأيام عند الفارابي ليست وقائع جارية وانما لحظات للتأمل الفلسفي خارج سياق البيئة المضطربة. فالتأمل في المسقبل كان في ذهن الفارابي محاولة للرد على حاضره المأزوم ومدينته الضائعة وسط ازدحام الاقتتال الدائم بين أمراء المدن وقادة ولاياتها.

في هذا الوقت حاولت بغداد استعادة نفوذها في مصر بعد أن قويت شوكة الدعوة الفاطمية في المغرب وترسخت دعائم الدولة الزيدية في اليمن الا ان المحاولات العباسية فشلت بعد نجاح محدود في العام 293 هجرية. هذا النجاح أحبطته الاضطرابات التي أضعفت هيبة المركز وقللت من أهمية الخليفة الذي بات أسير الجند وتدخل الجيش في السياسة. وفي الفترة القصيرة الواقعة بين العام 295 هجرية والعام 297 هجرية حصلت تطورات خطيرة حسمت تردد الفارابي الذي بلغ الآن الأربعين من عمره وقرر على إثرها الرحيل إلى بغداد لتحصيل العلم وتعلم العربية.

في هذه الفترة الموجزة زمنياً حصلت انقلابات خطيرة أحدثت انقلاباً في حياة الفارابي فقرر مغادرة فاراب بحثاً عن مستقبل مختلف في دولة تعيش حالات غير مستقرة. ففي السنتين توفي الخليفة العباسي المكتفي واندلعت ثورة القرامطة وزالت دولة الأغالبة في 296هـ وقامت على أنقاضها الدولة الفاطمية في المغرب في العام 297 هـ (909م).

في هذه السنة سنة التحولات الكبرى القريبة والبعيدة قرر الفارابي مغادرة مدينته والتوجه الى عاصمة الخلافة والعالم. وفي تلك النقلة الجغرافية ستبدأ قصة جديدة في حياة الفارابي سيكون لها أثرها الخاص في رسم شخصيته وهندسة فلسفته

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 847 - الخميس 30 ديسمبر 2004م الموافق 18 ذي القعدة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً