العدد 2815 - الجمعة 21 مايو 2010م الموافق 07 جمادى الآخرة 1431هـ

مَنْ يسرق العراق فكأنّما سرق الأرض ومَنْ عليها

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

قبل أكثر من شهرين قُيِّضَ لي أن أحضر معرضاً فنياً أميركياً. كان الحضور خليطاً من البشر. بالمناصفة، كانت الألسُن عربيةً وأعجميّة النّطق. المعروض كان صوراً ورسومات لفنّانين من العيار الثقيل. اللوحات كانت جميلة جداً. وزوايا صورها غاية في الاحتراف. وبعضها كان يُحاكي تجارب سياسية أميركية، كحملات المطالبة بالسّماح للسُّود بالتصويت، أو معارك الاستقلال، وربما معارك الشمال مع الجنوب.

الصّور ومضامين أشيائها، كانت تلامس تاريخاً يكاد أن يكون مُدرَكاً. بمعنى أنه ليس سحيقاً في سنينه ويومياته. هي لوحات تُعنَى باستقلال الولايات المتحدة في 4 يوليو/ تموز من العام 1776. أو بالاعتراف بها في 3 سبتمبر/ أيلول من العام 1783. أو بدستورها المُقَر في 21 يونيو/ حزيران من العام 1788. وفي حدّ أقصى محاكاتها لأوراق الفيدالية التي طرحها جيمس مادسون وألكسندر هاملتون وجون جاي والتي كانت تُسوّق لتعتيد الجمهورية الأميركية الفتيّة.

فعندما دمّر الأميركيون بناءً كان قائماً على أكتاف أزيد من 112 مليون هندي أحمر في «الأميركيتين» وأبادت ناسه أو طحنتهم (والزّنوج معاً) على قطبي الرّحى القاسية لبناء لحود الحفّارين، وبناء بيوت القَتَلَة، كان عليهم أن يُقيموا صرحاً يتوافق مع «أرض بوجه آخر». لم يعُد الغور التاريخي لهم رشيق القوام أمام أضرابه من تراث العالم. فلجأ السّاكن الجديد في سهوب الأميركيتين بتضميد ذلك عبر بطولاته في «الفتح» توّاً لهذه الأرض.

فكانت صور جورج واشنطن. ومعارك جيتيسبيرغ. وخطابات جون ترومبول. وإلهامات توماس مكولاي. بمعنى أن العُمر الحقيقي لكلّ هذه الجوقة التراثيّة هي بحدّ الأربعمئة عام في أحسن الأحوال. ورغم تواضع هذا المخزون (بالمقارنة مع خزّان العالم من التراث والوصل بالحضارة الضاربة) إلاّ أن الأميركيين يولونه عناية «شبه ربّانية» للقول: إنهم يملكون كغيرهم من البشر حياة مشابهة أو تكاد.

مناسبة القول في هذا هو ما تواردته الأنباء قبل أيام من أن «وزارة الثقافة العراقية توصّلت خلال محادثات في واشنطن إلى آلية لإعادة الإرشيف العراقي (المسروق) إلى بغداد». بالتأكيد فإن ذلك الأمر يهمّ كلّ عربي في أن يُرجِع السّارق ما سرقه من أرض بلاد الرافدين، ولكن الهاجس الأكبر في ذلك وخلال هذه المرحلة بالذات هو وضع العَيْن على السؤال المُلِح: ما هو المسروق من العِراق على يد «الأميركيين» وما هو نوعه وكمّه؟

وخصوصاً أن تلك المحادثات كانت مع وزراتي الخارجية والدفاع، بالإضافة إلى المركز الوطني الأميركي للإرشيف ومعهد هوفر (حسب الأنباء). ولأن وزارة الدفاع الأميركية معروفة الصّلات والعلاقات، ما بين يمين صهيوني يفوق (مدماكه) البشري الثمانين مليون أميركي، ومجمّعات صناعية كبرى، تصنع الحرب والسّلم معاً من على صفيح المال والأساطير، فإن الهاجس يكبر حول مصير ذلك المسروق، وأين أصبح، وماذا عُمِلَ به.

فطبقاً لشهادة مدير المتحف العراقي (السابق) منير طه فإن المسروق هو عبارة عن «تمثال الملك السومري أنتيما، المصنوع من الحجر وزنته نحو 200 كيلوغرام. وتمثال برونزي وزنه 272 كيلوغراماً يعود إلى الفترة الأكدية وقد تمّ إخراجه من بعد هدم الجدار. ورأس تمثال أسود من نمرود مصنوع من الحجر، وتمثال من البرونز لثورين يعودان إلى العصر السومري القديم».

ويضيف الدكتور طه، أن الأميركيين سرقوا أيضاً «وجه فتاة سومرية مصنوع من الحجر بحجمه الطبيعي، وأحد عشر تمثالاً، ورأس تمثال تعود إلى الفترة الرومانية، وتسعة أحجار مختومة بأسماء الملوك والمعابد السومرية، وتمثال هرمس من نينوى، وتمثال نحاس لرجل جالس يعود إلى الفترة الأكدية، والإناء السومري، و4795 ختماً، و5542 من العملات المعدنية والقناني الزجاجية والحلي والتعاويذ الحجرية».

أصِلُ الهاجس الحقيقي بآخر تابع له. وهو الاستفهام حول السّرقة المقصودة للمخطوطات العبريّة (اليهودية) من المتاحف العراقية. وهل أنها لا زالت محفوظة في مركز نارا الأميركي، أم أنها وجدت طريقها (ومنذ ثلاثة أعوام خلت كما قِيل) صوب الكيان الصهيوني، الذي ما فَتِأ وهو يُعيد صياغة «دولته العلمانية» على توليفة دينية يهودية «اصطفائية» ورّطته في مسائل الاندماج ما بين مشروع علماني ليبرالي، وآخر ديني ثيوقراطي شوفيني.

فأمام وفرة تراث بلاد ما بين النهرين والذي يمتد إلى أكثر من ثمانية آلاف سنة، وحضارات البشر الأوّليين من الأكديين والآشوريين والسّومريين والبابليين، ونُدرة في تراث الأميركيين الذي يُكابد الأربعة قرون، جُلّه في الحروب وعمليات الإبادة للهندي الأحمر، يُصبح الخوف أكثر من حقيقي، ما بين قسوة النُّدرة «المقتدرة» ضد رخاوة الوُفرة «المنكسرة».

ولأن التاريخ اليهودي في العراق هو ممتد إلى ما قبل القرن السادس قبل الميلاد وإبّان حكم الملك تجلات بلاشر الثالث وأحداث السّبي الأول، وأمام حروب تل أبيب الدائمة من أجل حصر التراث اليهودي في كلّ أرجاء المعمورة وأهمّها الدول العربية، وبسبب العلاقة الخاصة اليوم ما بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني يُصبح الخوف أكثر من جدّي أيضاً.

اليوم يُساوي جهد العراقيين (المُفترض) في استرداد تراثهم جهدهم المجموع لكلّ شؤونهم اليومية، بما فيه الأمن. بل الأكثر، هو أن يتحوّل ذلك الهمّ، من همٍّ قِطْري إلى قومي، فتمنح الجامعة العربية نفسها حقّ التّحدي ولو مرّة واحدة، وأن يستخدم بعض أعضائها الحليفين جداً لواشنطن علاقتهم الاستراتيجية معها لإرجاع ما سُرِق من المتاحف العراقية. فالحقيقة، أنه لا توجد لدينا نحن العرب طاقة زائدة ولا شرعية فائضة لتضييع أكثر مما ضاع.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 2815 - الجمعة 21 مايو 2010م الموافق 07 جمادى الآخرة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 4:56 م

      عراقي

      خنس جميع المطبلين والمزمرين..! لحكومة الاحتلال حكومة المنطقه الخضراء الطائفيه بأمتياز .. وهو ليس أحساس بالذنب أو صحوة ضمير متأخره , بل النظره العوراء للاشياء .. اينكم من ابداء الرأي في نكر وأستهجان الاعمال القذره للاحتلال وسلب تاريخ وحضارة بلد(المفترض) يخصكم أكثر من جارة الحقد والشر ! عمود الكاتب لم يؤثر فيكم ! مررتم عليه مرور الكرام ! لايحرك فيكم المشاعر ! لم ينبض فيكم (عرك) واحد

اقرأ ايضاً