العدد 2840 - الثلثاء 15 يونيو 2010م الموافق 02 رجب 1431هـ

المجتمع «المُنتظر»!

سليمان الهتلان comments [at] alwasatnews.com

-

لكن من هو «المثقف المنتظر» الذي يخرج الشياطين من المدينة كي تسكنها المعرفة والنور؟

يقول الصديق ياسر سعيد حارب في مقالته التي نشرها في «البيان» السبت الماضي، وعنونها بـ «المثقف المنتظر» إن المدينة التي تخلو من مثقفين هي مدينة تسكنها الشياطين. ولأن ياسر من رموز مرحلته ممن جعل من «الكتابة» طموحاً للعشرات من شباب مدينته فإن مثقفه «المنتظر» لابد أن يكون صاحب قضية تنوير خارجاً من سجن «الأيديولوجيا» التي تقيد عقله في أجندات السياسة وطقوس الحلال والحرام. أكاد أجزم، تماماً مثل يقين ياسر حارب، أن بداية النهاية لعصر التراجع العربي الراهن ستأتي حينما يلعب المثقف، ذو الأجندة التنويرية، دوره الحقيقي كملهم لمجتمعه وكمحرض ضد التقليدي وضد القفز إلى نتائج جاهزة أو طبخت منذ مئات السنين.

لنسأل من جديد: من هو «المثقف المنتظر» عربيا؟

يصف الراحل إدوارد سعيد، في سلسلة محاضراته الشهيرة في بريطانيا في العام 1993، المثقف بأنه فرد يحمل دوراً محدداً تجاه مجتمعه ولا يمكن أن يسمح بأن يقل شأنه ليصبح مجرد ساع وراء مكاسبه ومصالحه الشخصية. ان المثقف، وفقاً لإدوارد سعيد، هو فرد في إطار فريق يتبنى أو يعبر عن رسالة، فكرة، رأي، موقف، وفلسفة من أجل المجتمع وهذا الدور لا يمكن القيام به من غير الشعور بأنه - أي المثقف - شخص قادر على طرح أسئلة محرجة أمام الملأ ومهيأ لمواجهة أنماط تقليدية من التفكير أو أحاديته (دوقماتزم) من دون أن يخلق هو نفسه «دوقما» جديدة ليصبح إنساناً ينطلق من مبادئ إنسانية لا ترضخ لإغراءات المصالح والمكاسب الشخصية على حساب مجتمعه ومسئولياته.

في العالم العربي اليوم ثمة حاجة ملحة للمثقف الحقيقي - أو المنتظر وفقاً لياسر حارب - مثقف خارج عن دائرة «النخبة المتواطئة» حسب تسمية الشاعر الجزائري عز الين ميهوبي. إننا فعلاً بأمسّ الحاجة إلى تيار فكري يؤمن بأهمية النقد ولا يجمل أو يجامل الواقع! فإشاعة ثقافة النقد ونقد الذات تحديداً هي من أبرز شروط النهضة حتى وإن وصف أصحابها بـ «الانهزاميين» أو اتهموا بـ «جلد الذات». والراهن العربي المتراجع، على أغلب الأصعدة، يتطلب أن ينزل المثقف التنويري من برجه العاجي وأن يخرج من عزلته التي فرضتها حالة الإحباط القاسية التي هرب إليها المثقف الحقيقي حينما طال به التهميش والتجاهل. فالحالة الحضارية والتنموية الحرجة في محيطنا اليوم تتطلب - عملياً - أن يلتقي المثقف والسياسي من أجل البحث في آليات مختلفة لترتيب أولويات التنمية ووضع أجندات العمل. لقد حان الوقت أن يدرك السياسي العربي ان تهميش المثقف الجاد، ذلك الذي لا يجامل أو يتملق من أجل مزيد من الكسب، سوف يزيد من أزمات المجتمع وسيفسح المكان أمام النفاق والتملق وتزييف الحقيقة حتى تسقط الخيمة على رؤوس الجميع!

هل خلقت بيئة ملائمة لبروز دور حقيقي للمثقف المُلهم في عالمنا العربي؟ بالتأكيد لا توجد تلك البيئة اليوم بعد عقود من هيمنة «الهم السياسي» على المشهد العربي مما جعلنا في حالة انتظار صعبة للمثقف المُنقذ الذي ما إن يبدأ في محاولة التحليق حتى كسّرت جنحانه الرقابة بكل أشكالها أو داهمته حالة الإحباط العامة من حوله أو أٌشغل بالركض اللاهث وراء همومه المادية في عصر غلبت عليه ثقافة استهلاكية لا ينجو من شرها سوى ذو حظ عظيم! وهكذا كأننا نحمّل المثقف العربي اليوم فوق طاقته أو كأننا نسينا أن المثقف الذي نتحدث عنه هو إنسان مثله مثل الناس حوله وليس «نبياً» تأتيه المعجزات متى ما اشتدت الحاجة لها. هكذا إذاً تزداد حاجتنا التنموية ان يلتقي السياسي والمثقف على برنامج عمل مشترك فلا يخشى المنشغل بالسياسة أن يتآمر ضده المثقف ويأمن المثقف، في المقابل، أن السياسي لن ينفيه أو يقص جناحه إن حلق من أجل الإصلاح والتغيير. ولدينا في محيطنا أكثر من مثال لتلك العلاقة الإيجابية بين السياسي والمثقف المستنير كما في قصة الراحل عبدالعزيز التويجري في السعودية أو محمد جابر الأنصاري في البحرين. وتبقى حرية التفكير والتعبير شرطاً أساسياً لإيجاد مناخ ثقافي عام يصبح ضمانة حقيقية للنهوض والانطلاق نحو المستقبل. ومن دون حرية حقيقية لن تتحقق للمجتمع الفرصة المهمة لسماع كل الآراء لكي يكون قادراً على اختيار منهج حياته وفكره من دون وصاية فكرية أو توجيه سياسي. فالحرية تنتج مجتمعاً قوياً. والمجتمع القوي ينتج مناخاً من الأفكار والإنتاج المتميز. وفي المحصلة تصبح الدولة قوية وتبقى قوتها رهينة لوجود مناخ من حرية النقد والإبداع والتعبير والمراقبة. وإن أردنا - كمجتمعات - أن نخرج من دائرة «القرون الوسطى» في حالتنا الثقافية والفكرية فليس أمامنا خيار آخر غير أن نسعى جاهدين لإيجاد البيئة المنتجة للمثقف التنويري الملهم الذي تسبق شهرته شهرة السياسي وتكون كلمته أولى بالسماع من تلك الكلمات المحنطة والمتوارثة منذ قرون...

سكنت في مدينة بوسطن أربع سنوات. لم أعرف - إلى اليوم - اسم عمدتها ولم أندم أنني لم أعرفه. عرفت - من ضمن من عرفت - اسم المفكر والناقد العملاق نعوم تشومسكي. زرته في مكتبه (مكتبته). حاورته. راسلته. أراسله اليوم من حين لآخر. النخب السياسية والثقافية في العالم كله تعرف أن نعوم تشومسكي يسكن في كيمبردج - بوسطن أكثر مما تعرف عن المدينة الضخمة نفسها. وفي حياة الأديب المغربي محمد شكري، كانت طنجة تعرف بأنها المدينة التي يسكنها شكري. رأيت بنفسي، في طنجة، قبل أن يرحل شكري عن دنيانا، كيف يحج العشرات - ربما المئات - من مثقفي العالم الشباب إلى طنجة لملاقاة أديبهم الجدلي محمد شكري. وفي بيروت والقاهرة، أيام مجدهما في القرن الماضي، كان العربي الذي يحلم بدور إنساني وحضاري في محيطه يحرص على زيارة أي منهما لأنهما كانتا عاصمتي الثقافة ودور النشر والصوالين الأدبية. إن انطفأ وهج الثقافة في المدينة انطفأ ذكرها. والمدن التي تعرف الناس مثقفيها أكثر مما تعرف رموزها السياسية أو شواهدها التاريخية هي المدن الحية والملهمة!

إذاً «المثقف المنتظر» - الفرد - لن يخرجنا من عزلتنا ومن حالتنا الثقافية المتراجعة.

فقط... مناخ الحرية الحقيقي هو الكفيل بإنتاج مشهد ثقافي نشط وحيّ يأتي بالمثقف المنتظر وبالرأي النقدي المنتظر وبالمجتمع الحي المنتظر!

إقرأ أيضا لـ "سليمان الهتلان"

العدد 2840 - الثلثاء 15 يونيو 2010م الموافق 02 رجب 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 4:22 ص

      مقال رائع

      كما عودنا الدكتور سليمان الهتلان على كتابة المقالات الأكثر من ارئعة.
      مقال يجب أن يطلع عليه الجميع

    • زائر 2 | 3:06 ص

      محب للثقافة

      مقال جميل يااستاذ

    • زائر 1 | 1:56 ص

      ذكرتهما ولا تعرفهما عذرا

      ذكرت نموذجين متصالحين مع السلطة دون ان تعرفهما وتعرف ما بينهما من مصالح وما اغدق عليهما من نعم وهبات وهما يعلمان لا حق لهما فيها وانما هي أخذت من اصحابها وأعطيت لهما هل تعلم ذلك فالظاهر جميل والباطن قبيح .فبئس تلك العلاقة القائمة على حساب الناس وبئس هذا المثقف . أرجو عدم الترويج لمثل هذه العلاقة أو البضاعة وشكرا

اقرأ ايضاً