العدد 2390 - الأحد 22 مارس 2009م الموافق 25 ربيع الاول 1430هـ

المال و«نمط الإنتاج السياسي»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

خطوة جريئة من الشيخ ماهر حمود حين اعترف في لقاء أجرته معه محطة «المنار» اللبنانية أنه يقبض المال من إيران. الاعتراف أدهش مقدم البرنامج الذي لم يتوقع صدور مثل هذا التصريح الشفاف. ولكن الشيخ ماهر أوضح المسألة بالقول «أنا أقبض ولكني لا أبيع مواقف». وكشف أن السفير السعودي السابق عرض عليه فامتنع على رغم أن السعودية سخية وكريمة وليست بخيلة كإيران.

اعتراف الشيخ ماهر بوجود «مال سياسي» يعتبر نقطة مهمة لتوضيح الكثير من الملابسات التي تتحكم ببعض مواقف القوى الفاعلة في بلاد الأرز. والاعتراف المباشر يعتبر من الخطوات النادرة في السياسة اللبنانية إذ الجميع يأخذ وينفي بل ويتهم غيره بالقبض.

اللبنانيون عموما لا يعتبرون المساعدات العينية والمالية التي يحصلون عليها عملية رشوة في اعتبار أن السياسة تقاطع مصالح. والتقاطع في الأهداف يتطلب تبادل القوى الصديقة المساعدات حتى تستطيع الصمود والتصدي في معادلة صعبة تتداخل في وسطها الكثير من الخطوط الدولية والخيوط الإقليمية. ولهذا السبب المبدئي تحجم القوى السياسية عن الخوض العلني في هذه المسألة الحساسة باستثناء الجنرال ميشال عون الذي يتهم غيره بالمال السياسي بينما يشاع في أوساط تياره «الوطني الحر» أن موازنته الشهرية تخطت الملايين من الدولارات وهي تأتي إليه من تحالفاته وليس من «عرق جبينه» كما يقال باللهجة اللبنانية.

اعتراف الشيخ ماهر لا يقل أهمية عن تلك الاعترافات السياسية التي أدلى بها أحمد الجلبي إلى صحيفة «الحياة» في لندن عن اتصالاته وتعامله وارتباطاته بالأجهزة الأميركية ومراكز المخابرات والقرار في البنتاغون والكونغرس لسنوات طويلة بقصد الاستنجاد بالقوات الأجنبية واحتلال العراق وقلب نظام حكم صدام حسين. فالجلبي متصالح مع نفسه إلى درجة أنه لا يعتبر العمالة خيانة. العمالة تقاطع مصالح كذلك قبض المال من اللوبيات (المافيات) ومؤسسات الدعم الأميركية وبالتالي فهي مبررة بحكم الظروف والضرورة ولا يمكن موازاتها بالخيانة.

كثير من السياسيين في لبنان يتعاطون الشأن العام بوصفه وسيلة للارتزاق والكسب ووظيفة للعيش. فهناك أصحاب محلات ودكاكين وتجمعات سياسية استخدموا منذ أكثر من ثلاثة عقود أدوات متطورة لحفر قنوات الاتصال بقصد توفير الأموال اللازمة لتغطية الأنشطة والمؤتمرات واللقاءات في بيروت أو غيرها من العواصم العربية. بعض تلك المحلات ابتكر سلسلة من الهيئات المتعارضة في عناوينها حتى يوسع دائرة الكسب من جهات مختلفة في آن. فهذا البعض يشتغل على خط القومية العربية وخط الإسلام وخط ثالث يجمع القومي والإسلامي في هيئة مشتركة وذلك بقصد أن يرضي مختلف الأهواء وحتى تبقى الأبواب مفتوحة على كل الاتجاهات والاجتهادات. تارة تكون القومية في الموقع الأول وطورا الإسلامية وأحيانا ترتفع حرارة الاندماج بين القوميين والإسلاميين وبالتالي اقتضت الضرورة السياسية الجمع بين الأيديولوجيتين.

إلى الساسة هناك بعض أصحاب الصحف وغيرها من منابر إعلامية ترتوي من روافد الدعم والمساعدة مقابل «حفنة من المقالات». والكل في لبنان يعلم أن بعض الكتاب ينشر مقالات غير مقنعة دفاعا عن هذه المسألة أو تلك ويصر على مواصلة الكتابة والنشر بسبب الحاجة المالية ولتغطية كلفة المعيشة والغلاء وارتفاع الأسعار.

الكل سواسية كما يبدو في هذا الحقل. وهذه ليست المشكلة. المساعدات والدعم وتغطية النفقات وسد عجز الموازنة قد تكون مبررة لأنها سياسة دولية تعتمدها هيئات أممية ومنظمات تابعة للأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وغيرها من الدول القادرة بهدف منع الانهيار وتعويم اقتصادات فاشلة وتغذية شرايين الحياة لفئات تعرضت لكوارث طبيعية أو عنف أهلي أو اعتداءات من دول كبرى.


الاستنساخ والتخليق

هذا النوع من المساعدات مشروع إلا أن المسألة تنقلب إلى الضد حين تتحول إلى «نمط إنتاج سياسي» وتبدأ المزايدات والمناقصات في سوق البورصة المالية لاستدراج العروض.

خالد مشعل قال في مجلس مفتوح خلال زيارة قام بها إلى البحرين قبل شهرين من العدوان على غزة إن «حماس» أقامت علاقات خاصة مع إيران لأن الدول العربية ترددت أو تأخرت عنها. وجاء كلام مشعل ردا على سؤال بشأن حصولها على تمويل من طهران. فالمسئول في «حماس» كان أوضح من الشيخ ماهر إذ أشار إلى أن الحركة طرحت نفسها على الجميع ولم يتقدم إليها سوى إيران وهي حتى الآن لم تقفل الباب لمن يريد الاتصال.

هذا الجواب مفهوم ويمكن وضعه في سياق الحاجة والضرورة والظروف ومتطلبات النضال والمواجهة والتصدي والتحدي وضغوط الناس. فهناك فعلا حالات تحتاج إلى مساعدات طبية وغذائية طارئة لمنع الانهيار واحتواء آثار الاعتداءات. ومشهد النائب البريطاني جورج غالاوي وهو يقدم أكداسا من النقد الصعب (الجنيه الإسترليني) لقادة «حماس» في غزة لم يثر الاستغراب على رغم أن الصورة مهينة إذا تم النظر إليها من زاوية الاستعطاء. فهناك الكثير من المشاهد والصور يمكن تقبلها إذا أدرجت في موضعها وسياقها لكون المسألة تعتبر استجابة لظروف أو منسجمة مع لحظة مأسوية تتطلب رؤية إنسانية شاملة كما هو حال النائب البريطاني المتحمس للقضية الفلسطينية والمتعاطف مع شعب غزة المحاصر.

إذا أين تكمن المشكلة؟ تبدأ المشكلة حين تأخذ مسألة المساعدات والدعم بالانتقال من طور الحاجة والضرورة إلى وظيفة سياسية. ويصبح المال بمثابة «نمط إنتاج سياسي» يعطل التفكير ويخلط الأوراق ويدخل الشريف بالمزيف وتبدأ المزايدات اللفظية تحجب الرؤيا عن المشهد.

هذا النوع من «الإنتاج السياسي» يزعزع الصورة ويحطم الجسور ويكسر الثقة لكونه يؤدي إلى تشويه المعرفة وتزييف المعدن وتزوير المواقف. النمط المذكور من «الإنتاج السياسي» يولد في المختبرات خلايا مزيفة يمكن أن تؤذي الصادق في مواقفه والمؤمن بقناعاته إلى درجة تصبح القوى المعنية غير قادرة على التمييز بين المعادن والجواهر نظرا لاختلاطها وتمازجها من دون حسيب أو رقيب.

الخطورة في تفشي «نمط الإنتاج السياسي». وحين تنعدم السيطرة على هذا النمط سيؤدي في لحظة معينة إلى تعطيل القدرة على الفرز بين صديق مؤمن بتحرير فلسطين ورفيق يؤيد المقاومة لقناعات مبدئية وبين آخر يدعي الصداقة والإيمان لغايات الكسب والارتزاق. وهذا النوع من التضليل يؤدي مع الأيام إلى تعطيل ميزان العدالة ويساهم في تكوين خلل بنيوي في توازن القوى على غرار ما تنتجه مختبرات الاستنساخ أو مطابع العملات المزيفة.

قديما حذر ابن خلدون في مقدمته من مخاطر تفشي «الاستنساخ» وهي نظرية كانت معروفة في الفكر العربي - الإسلامي باسم «التخليق». فصاحب المقدمة أشار إلى أن «التخليق» يخل بالطبيعة ويعدم الثقة بالنقد ويدمر السوق (بضاعة صحيحة وبضاعة فاسدة) وربما يؤدي إلى التشكيك بالصانع. فالتخليق (الاستنساخ) يولد بضاعة قد تلبي حاجات إنسانية لظروف معينة ولكنه يفتح الباب لإنتاج طفيليات ومعادن زائفة وبضاعة فاسدة ويطلق منافسة غير مشروعة بين الباطل والحق والشر والخير من دون قدرة على معرفة الحقيقي من المصطنع. وحين تتحول السياسة إلى نمط إنتاج يحاكي كلاميا مختبرات الاستنساخ (التخليق) العلمية تنحرف رويدا المبادئ عن سكة الحديد وتنزلق باتجاه الارتطام بحائط مسدود أو السقوط في الهاوية.

الاعتراف بالقبض فضيلة حتى لو جاء في سياق توضيح ملابسات أخذت تحطم صورة المواقف السياسية بعد أن دخلت كما يبدو طور الاستنساخ (التخليق) في لبنان ولم تعد القوى المتعاطية بالشأن العام قادرة على التميير بين الحقيقي والزائف. فهناك الكثير من التيارات والمنابر تدّعي «حب سيف الدولة» كما قال المتبني في قصيدته الشهيرة... وهنا تحديدا تبدأ مخاطر «نمط الإنتاج السياسي» وسلبياته.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2390 - الأحد 22 مارس 2009م الموافق 25 ربيع الاول 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً