العدد 2390 - الأحد 22 مارس 2009م الموافق 25 ربيع الاول 1430هـ

مِنْ هَمِّ البَشِيْرِ إلَى هَمِّ العَدَالَةِ الضَّائِعَة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

تبدو العدالة الدولية كالنّص المُقدّس. يُؤخَذُ منه الحرام والحلال والمكروه والمُستحب والمباح بشروطه في تحيين التكليف. لكن المُتغيّر فيه هو حصر فقهائه على سَدَنَةِ السياسة الغربية. وهو ما يعني فقها مُسيّسا يقوم على نظام المصالح بشكلٍ صرف.

في قضية الرئيس السوداني عُمر حسن أحمد البشير (65 عاما) لا يظهر غير ذلك. فهي (القضية) اجترار طبيعي لإرادات ذات الجوقة المنتصرة منذ الحرب العالمية الأولى. وهي تمضي هكذا لأن المصالح الدولية باتت مسكوكة بخَيَاراتها.

فعندما هُزِمت دول المحور أمام الحلفاء في الحرب العالمية الثانية أُنشِئت محكمتا نورمبرغ وطوكيو بمقتضى اتفاقية لندن. فأعدِم المارشال هرمان، وفون وينشيروب، والفرد روزنبرغ من الألمان، وستة قادة عسكريين آخرين من اليابان.

وقد توالت القضايا الدولية لاحقا ضد رؤساء سابقين ومسئولين سياسيين. فادُّعِيَ على الرئيس الليبيري تشارلز تايلور، واليوغسلافي سلوبودان ميلوسيفيتش، والسنغالي حسين حبري، والصربي ميلان ميلوتينوفيتش (قبل أن يُبرّأ) كلا بهمّه وجُرمه.

لكن تلك العدالة الدولية (أيضا) لا تستمر إذا ما اصطدمت في انحناءاتها بجَيْبٍ طارئ للمصالح. فإمبراطور ألمانيا السابق غليوم الثاني لم تستطع العدالة الدولية أن تحاكمه رغم مسئوليته الجنائية في الحرب العالمية الأولى وذلك بسبب معارضة هولندا في ذلك والتي عاش فيها تحت حماية امستردام حتى وفاته بداية العقد الرابع من القرن المنصرف.

أغلب من ادُّعِي عليهم مُتهمون بارتكاب جرائم حرب وإبادة ضد الإنسانية بسبب الحروب أو جرائم تعذيب بحقّ مواطنيهم. وبالتالي فإن الباب يبقى مفتوحا لمحاسبة من تنطبق عليه هذه التُهم دون تمييز في الجغرافيا أو السياسة.

حسنا، يبدو الأمر جيدا لغاية الآن. فرؤساء الولايات المتحدة الأميركية وقادتها لهم حظّ وافر في ذلك. فواشنطن خاضت 131 حربا منذ تأسيس الجمهورية الأميركية، ستّ حروب منها فقط كانت بتأييد الكونغرس، ارتُكِبَت خلالها مجازر لا تُطاق.

في العام 1890 قامت القوات الأميركية بالهجوم على واندو ودكني وعلى الأرجنتين. وبعد عام هاجمت تشيلي وهايتي. وبعد عام أيضا هاجمت إيداهو لقمع المضربين في مناجم الفضة، ثم مهاجمة هاواي وشيكاغو لقمع المضربين في سكك الحديد.

ومنذ العام 1894 حتى 1899 (خمس سنوات فقط) هاجمت الولايات المتحدة نيكاراغوا ثم الصين ثم كوريا ثم بنما، ثم نيكاراغوا والصين مرة أخرى، تلتها الفلبين وكوبا وبورتوريكو وغوام ومينيزوتا، ثم نيكاراغوا مرة ثالثة وأيداهو وبنما مرة ثانية.

وبعد عامين من ذلك هاجمت هوندوراس ست مرات، والصين أربع مرات، والدومينيك وكوبا ثلاث مرات، والمكسيك مرتين. ثم هاجمت روسيا في العام 1918 ثم بنما، فيوغسلافيا وغواتيمالا وتركيا والصين والسلفادور وإيران والأوروغواي واليونان. (راجع ما كتبه زولتان غروسمان في منشورات فايارد 2002).

هذه حروب دخلتها الولايات المتحد في بحر اثنين وثلاثين سنة فقط، تمتد من العام 1890 ولغاية العام 1922!. وهي لا تشمل الحروب الداخلية التي خاضتها واشنطن ضد بعض الولايات والمقاطعات إلاّ في اثنتين منها فقط. إنها مأساة حقيقية.

قبل أيام كشف الصحافيان في الواشنطن بوست جيفري سميث ودان إيغين عن وثائق داخلية في إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش تتحدث عن السقطات القانونية التي تورّطت فيها الإدارة وهي تشنّ حربها ضد الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول.

تكشف الوثائق أن الرئيس أُعطِيَ «سلطات واسعة» اعتبرتها وزارة العدل فيما بعد مليئة بالأخطاء. أعطته تلك الصلاحيات بأن يصدر موافقات عديدة «على التفتيش العسكري للمدنيين في الولايات المتحدة أو اعتقالهم أو محاكمتهم من دون اطلاع الكونغرس».

وأيضا «تجاهل المواد الدستورية التي تضمن حرية التعبير وتمنع التفتيش من دون إذن، والسماح للقوات باقتحام أحد المباني إذا اشتبهت في وجود إرهابيين داخله، ونقل المحتجزين إلى دول تشتهر بارتكاب إساءات لحقوق الإنسان، واستخدام وكالة الاستخبارات المركزية لأساليب تحقيق قاسية ومراقبة الأميركيين من دون إذن» (راجع ما كتبته الواشنطن بوست في ذلك المجال).

الآن هل يُعقل أن كل هذه الانتهاكات لا تُشكّل قائمة موضوع قانونية مُعتبرة لكي ينال مُرتكبوها عقابا دوليا، حالهم كحال البشير وتايلور وميلوسيفيتش؟ هل لا تُوجد إحصائيات للضحايا؟ أو هم من دون أسماء ولا اعتبارات مدنية وحقوقية؟.

هل من الضروري استحضار التفجير الذرّي على هيروشيما في السادس من أغسطس/ آب من العام 1945 والذي أودى بحياة ستة وستين ألفا وجرح تسعة وستين ألفا آخرين لكي تكتمل القائمة الجنائية؟!

أم يرى البعض أنه من الضروري إضافة التفجير الذرّي التالي في نكازاكي والذي راح ضحيته أربعة وسبعون ألف ياباني وجرح ستين ألفا آخرين؟. أو إضافة مليون ومئة ألف قتيل فيتنامي وستمئة ألف جريح آخرين سقطوا خلال الحرب الأميركية الفيتنامية!.

هذه أرقام ليست للمساجلات، بل إنها حقائق التاريخ. ليس من المعقول أن يُستجلب المتهمون من كل أصقاع الأرض، ويُترك أصحاب الجرم الأصليين.

إذا كان البشير وغير البشير لا يستحقّ إلاّ الإدانة، فما هي الوصفة المناسبة لهارديسون وكليفلاند ومكينلي وتيودر رزفلت وهيوارد تافت وويلسون وانتهاء بجورج دبليو بوش الذين أنست مظالمهم مظالم من خلوا، حتى ترحمنا على نيرون، كما في نونية القرضاوي.

المفارقة اليوم تجري بين حدّين مزدوجين. الأول أن قائمة من الحكّام العرب قَتَلَة ومُستحقين للجزاء الدولي. والثاني أن جزءا مماثلا من «بني الأصفر» يستحقون كذلك جزاء يوازي حجم الدم الذي أراقوه بحقّ شعوب الأرض شرقا وغربا.

هذه سلّة واحدة لا يُمكن تجزأتها.

فإذا كانت العدالة الدولية ستسير على هكذا سكّة فسيغسل الغرب أدران عاره ولو بشكل معنوي. فالدول والحضارات لا تبتئس حين تُشَذّب أطرافها وحوافها فداء لمسيرة شعوبها ومكانتها الدولية وتاريخها.

وعندما يحين الوقت الذي يقبل فيه الغرب أن يُساق أي زعيم سياسي في جوفه (مهما علا شأوه) نحو الجزاء الدولي، فستُعبد نماذجه وتُرفع المصاحف بوجه خصومه. وتُحرج القوى التي ترقص على أوتار ازدواجية المعايير لدى الحضارة الغربية.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 2390 - الأحد 22 مارس 2009م الموافق 25 ربيع الاول 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً