العدد 851 - الإثنين 03 يناير 2005م الموافق 22 ذي القعدة 1425هـ

"ضاربو الودع" في الفضائيات العربية وتزييف الوعي

منجمو العام الجديد

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

السياسيون والمنجمون هم الذين تصدروا للحديث عن توقعات العام الميلادي الجديد الذي أهل علينا - العام 2005 الميلادي - على شاشات التلفزيون العربي، وغاب البحاثة والدارسون عن الحديث في معظم محطاتنا التلفزيونية العربية التي ملأت الفضاء.

لا أعرف أية قيمة يحملها أهل التنجيم في تحديد مصير العالم في العام المقبل، وخصوصا العربي، كما أني لست على يقين أن بعض المحللين من الصحافيين قادرون على رسم ما سيقع في المستقبل. وقرأت في وقت سابق قولا مازلت أتذكره وهو أن "الصحافي "في أحسن أحواله" تلميذ يتحول إلى أستاذ كل يوم"، إلا أن الظاهرة التي اجتاحت برامجنا التلفزيونية العربية في الأسبوع الماضي، قبيل انبلاج عام ميلادي جديد، تنبئ عن عدد من المؤشرات:

الأول أننا كعرب ومسلمين، وعلى رغم كل الحديث المتدفق بشأن عدم وجوب تبعية الغرب ومحاولات الانفكاك من ربقته سياسيا واقتصاديا وثقافيا، كما يطالب كثيرون، مازلنا مقيدين معه بسلاسل من القيود، بعضها ظاهر بين، وبعضها مستتر حي. وظاهرة الاحتفال بالعيد السنوي لدخول السنة الميلادية بين وظاهر للكافة، وليس الاحتفال هنا فقط بإقامة السهرات وانتظار العام الجديد في وقت محدد من منتصف الليل والاستبشار به أو التطير منه، فذلك منع في بعض بلادنا، أقيم في بلاد أخرى، ولكن الاحتفال الأكثر وضوحا هو الذي أقامته وسائلنا الإعلامية على اختلافها، فالصحف أفردت صفحات عن حوادث العالم في العام الماضي، وتوقعات العام الجديد، وكذلك محطات التلفزيون كان بعضها أكثر تناولا وأعمق بعدا من البعض الآخر، ولكنها أبت إلا أن تعزف تقريبا المعزوفة نفسها.

الثاني وهو نابع من الملاحظة الأولى ان "العولمة" تضطرب بشدة في مجتمعاتنا، ولكن بعضنا يفضل ألا يرى نتائجها أو آثارها ويضرب عنها صفحا، لذلك قررت الطبيعة أن تذكرنا بها في آخر السنة الميلادية، فجاء الإعصار البحري الهائل نتيجة زلازل في المحيط الهندي "تسونامي" لا ليقضي على أكثر من مئة وعشرين ألف قتيل جلهم من الآسيويين، وبل وأيضا ليقتل أكثر من خمسة آلاف "أوروبي" بعضهم من المشاهير، وهو عدد يناهز تقريبا ضعف من قتل في الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، والذي أثار كل ما أثار من حروب وتشنج دولي مازلنا نعاني من آثاره.

إذا الكوارث الطبيعية تذكرنا بأن هذا العالم اليوم هو عالم واحد، ولو فكرنا عقليا بان مثل هذه الكارثة قد حدثت منذ خمسين عاما فقط، فلن يكون هناك هذا العدد الكبير من الأوروبيين من ضحاياها، فالمتشمسون على السواحل الآسيوية في هذا الوقت من العام من الأوروبيين هم نتاج مجتمع الوفرة الأوروبي مقرونا بسرعة الاتصال التي هيأتها وسائل الاتصال الحديثة!

إنها العولمة أو أحد مظاهرها التي يبدو أن الطبيعة تريد بطريقتها أن تذكرنا بها، والتي أسقطت التقسيم القديم، شرق وغرب أو شمال وجنوب.

الثالث استضافة المنجمين وضاربي الودع في محطات التلفزيون العربية كي "يتنبأوا" لنا بما سيحدث في العام الجديد، وشاهدت أحدهم لا يتورع وعلى رؤوس الأشهاد وبلسان ذرب مطواع، بالقول ان فلانا "رئيس دولة" "كذا" سيقتل في الشهر "الفلاني"، وأن الدولة العربية "كذا" سيحدث فيها ذلك وهذا من الحوادث. أما إحدى قارئات النجوم فقد ظهرت على التلفاز أكثر من ساعة، لتقول لنا كم عدد الطائرات التي ستسقط من السماء، وعدد الحروب التي ستندلع، والكوارث التي ستحل بالإنسان، كل ذلك وهي تبتسم للمشاهد، وكأنها تخبره بخبر جد سعيد! كل ذاك هي رسائل مولودة في رحم الجهل.

ولم تقدم لنا ولا وسيلة إعلام شيئا عقلانيا يرجح أعمال العقل، مثل مراجعة ما تنبأ به أمثال هؤلاء في العام الماضي من كوارث وحروب وقتل وحرائق ودمار، حتى نعرف، نحن كمشاهدين مسلوبي الإرادة، نسبة نجاح أو فشل مثل تلك التوقعات التي تطلق في الهواء!

هذا أمر يصل بنا إلى ثنائية عجيبة، وهي أن "العقل" العربي يرغب بل يعشق أن ينظر إلى المستقبل "نظرة" غير علمية فيها الكثير من التمني والتنجيم، إذ إن من تابع وسائل إعلام أخرى وخصوصا الغربية افتقد مثل هذا "التنجيم" في رصد المتغيرات العالمية، فحركة زماننا لا تعتمد على التنجيم بقدر اعتمادها على العلم الموضوعي والمعلومات الموثقة.

ثم من المسئول عن فشل أو عدم حدوث مثل هذه التوقعات "الخرافية"؟ هنا يبرز سؤال أصيل في ثقافتنا العربية له علاقة بـ "المسئولية"، فلا محطات التلفزة، ولا غيرها من السادة "المنجمين" أو السيدات "المنجمات" مسئول عن إهدار الكلام والتوقعات على علاتها، والمحاسبة؟ أية محاسبة! في الحياة الثانية إن شاء الله!

ثالثة الأثافي في هذا الموضوع الذي أحسبه من الموضوعات المهمة هو دور الإعلام بأشكاله المختلفة في إضافة وعي سلبي جديد أو في تزييف الوعي القائم لدى ملايين من البشر العرب المتسمرين أمام شاشات التلفزيون وكثير منهم يعتقد أن هذا الجهاز "لا ينطق عن هوى"، والنتيجة أننا ندري أو لا ندري بقصد أو دون قصد نزيد من تخلف الوعي باعتماد بعض وسائل إعلامنا على "التنجيم" لمعرفة مسارات الأوضاع السياسية والاقتصادية في بلادنا، وهو من الخطورة ليصل إلى تحديد آجال الناس، ومن سيقتل من الزعماء ومن سيطول به العمر، وكم طائرة ستسقط من السماء وأين ستسقط أيضا! بل وكيف ستحل القضية الفلسطينية! إذا أضفنا إلى ذلك الافتراض إن من يقرأ ربما يتحصن بشيء من وعي القراءة إن وجد، أما من يشاهد دون أن تكون لديه خلفية القراءة، يصبح ضحية جاهزة لما يسمع. كل هذا يقودنا إلى خلق وعي "متقاعد" عن العمل يصب في الحتميات القاتلة، فما دام الشيء سيحدث فإن الإنسان ليس له خيار في ذلك فلندع إذا كل ما نستطيع أن نقوم به وننتظر من "النجوم" أن تحل لنا مشكلاتنا المعقدة

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 851 - الإثنين 03 يناير 2005م الموافق 22 ذي القعدة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً