العدد 858 - الإثنين 10 يناير 2005م الموافق 29 ذي القعدة 1425هـ

الميل للأذية

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

في أيام معدودة يمكنك أن تقرأ اخبارا عن سرقات من نوع جديد: لصوص "مهذبون" يسرقون السيدات ويبادرون إلى الاتصال بضحاياهم معتذرين وهم يعرضون إعادة بعض المسروقات. لصوص يسرقون 10 دنانير فحسب. وآخرون يتكالبون على ضحية واحدة والسرقة تافهة. أما المتورطون فهم في الغالب شبان.

وإذا ما استذكرنا السرقات المسلحة، تعين علينا أن نتوقف لكي نقارن ما يجري بما نشاهده في التلفزيون: سرقات المصارف المسلحة على طريقة الأفلام الأميركية، وفي آخر القصص سرقة باستخدام السكاكين.

الحلول على الطريقة البحرينية سهلة وقد ترددت أصداؤها: مزيد من التشدد ضد المجرمين وتعزيز القبضة الأمنية. لا بأس من هذه الحلول، لكن إذا تم التعويل عليها لوحدها فإننا سنكون قد أنجزنا نصف المهمة وتركنا نصفها الأهم.

لست هنا بصدد الخروج بأحكام قاطعة واستنتاجات نهائية بشأن مدلولات هذه الحوادث، لكن التفاصيل وحدها كافية لكي تحفزنا على التوقف ومعالجة الأمر من زوايا أخرى. من زاوية الدراسة العلمية لهذا التحول في السلوك وأكثر ما يستوقفنا هنا هو جرعة العنف المتصاعدة في السرقات.

السرقة كأحد أشكال الانحراف البشري ليست جديدة طبعا، لكن تطور أساليبها وتطور تقنياتها حري بأن يدفعنا إلى التوقف والسؤال عن سر هذا التغيير. وعوضا عن الخروج بأحكام قاطعة، فإن التفاصيل وحدها كافية لكي تطرح الأسئلة.

مشاجرات الطلاب مع مدرسيهم ليست جديدة أيضا، لكن الجديد هنا هو بعض التفاصيل المرافقة للوقائع. اشتباك جسدي بين مدرس وطالب، هذا ليس بجديد، لكن الجديد تفاصيل قد تكون غير مسبوقة: لامبالاة من قبل الطلاب أو المدرسين لفض الاشتباك، الاشتباك متسلسل وذو تفاصيل متعددة تشمل أن الاشتباك استمر لفترة من الوقت، مشاركة طلاب آخرين فيه، قسوة وإفراط في استخدام العنف.

من المخطئ ومن اعتدى أولا ليس هذا هو المهم، بل ستتكفل به أساليب الاستنطاق والتحقيق وشهادات الشهود، ولربما أن شجارا كهذا لا يتكرر كثيرا، لكن هذه النوعية من التفاصيل جديرة بأن تدفعنا إلى الفزع.

ماذا يفعل الاجتماعيون والاختصاصيون النفسانيون لدينا؟ هل يرصدون مثل هذه الظواهر أولا بأول؟ هل استوقفهم هذا الميل المتزايد نحو العنف في حوادث سنظل نردد لنقنع أنفسنا بأنها حوادث معزولة وهي استثناء وليست أصلا؟

غداة احتلال إيطاليا لإثيوبيا في الثلاثينات من القرن الماضي، تداعى علماء نفس أوروبيون لاجتماع عاجل في فيينا، لأن صور الفظاعات التي مارسها الإيطاليون في الحبشة قرعت جرس إنذار بحجم بابل: ماذا جرى لكي يتحول الإيطاليون الذين عرف عنهم أنهم مسالمون ومحبون للحياة والفن لكي يصبحوا جلادين بمثل هذه الضراوة؟

كان هذا السؤال هو الذي أرق علماء النفس الأوروبيين وهم يشاهدون فظاعات الإيطاليين. ربما لم نصل إلى هذا الحد بعد، لكن هل يتعين علينا أن ننتظر؟ كان الجواب هو: الفاشية.

الفاشية التي حولت شعبا عاشقا للفنون إلى شعب محب للدماء والأذية. ربما إن علينا أن نبحث في هذا الميل المتزايد إلى الأذية لدينا

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 858 - الإثنين 10 يناير 2005م الموافق 29 ذي القعدة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً