العدد 859 - الثلثاء 11 يناير 2005م الموافق 30 ذي القعدة 1425هـ

معارك السامية... ومحارق الحرية!

هوامش على تقرير معاداة السامية الأميركي

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

كثير من السكاكين الأميركية أصبحت على رقابنا، وما من يوم يمر إلا والدم ينزف، والعقل يمتهن والحرية تنتهك، باسم الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان، للأسف الشديد.

لن نخوض كثيرا هذه المرة في الدماء النازفة بشدة فوق أرض فلسطين المقدسة وأرض بلاد الرافدين "العراق"، فهي نتاج حرب عدوانية صريحة تشنها قوى باطشة تتقنع بالدفاع عن الحرية وهي تمارس العكس.

ولكن دعونا نطرق القضية، قضيتنا في هذا الزمان من باب آخر، ونعني من باب يبدو أكثر تحضرا لأنه يتعلق بالقوانين والمبادئ، وإن كان ظاهره حق وباطنه عذاب وباطل.

يوم الأربعاء الماضي 5 يناير/ كانون الثاني الجاري، أصدرت وزارة الخارجية الأميركية تقريرها الأول والمثير عن "متابعة ومراقبة معاداة السامية في العالم" حاملا علامتين بارزتين، أولاهما إدانة واسعة لكثير من دول أوروبا، بسبب تصاعد ظاهرة العداء للسامية فيها خلال الفترة الأخيرة، لكن الإدانة الأشد والأقسى ذهبت كالعادة للدول العربية والإسلامية، أما ثانيتهما فهي البصمة الواضحة للمنظمات الصهيونية واللوبي اليهودي الأميركي، التي ظهرت صريحة متجاسرة في صوغ التقرير ولهجته وأحكامه وبالتالي تهديداته المباشرة!

وبداية نذكر بأن التقرير السنوي جاء تطبيقا وإنفاذا للقانون بالعنوان ذاته "مراقبة معاداة السامية" الذي أقره الكونغرس الأميركي في 8 أكتوبر/ تشرين الأول ،2004 بعد أن قدمه العضو الصهيوني الشهير "توم لانتوس"، ثم سارع الرئيس بوش فأصدره يوم 14 من الشهر نفسه، ضمن حملته الانتخابية، وقبل نحو أسبوعين فقط من يوم الانتخابات في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني... الهدف واضح إذن.

يضم القانون ست مواد رئيسية، تتفرع إلى أخرى عدة، ويستند في حيثيات إصداره، "المادة الثانية" إلى تصاعد مطرد للحركات المعادية للسامية في العالم وخصوصا خلال العامين ،2003 و،2004 ويذكر بشكل مباشر "أنه لوحظ أن الأنماط الحديثة والقديمة المعادية للسامية في ازدياد مستمر، وخصوصا تلك الصادرة عن العالم العربي والإسلامي، والمتمثلة في إصدار الكتب من خلال هيئات النشر الحكومية في مصر ودول عربية أخرى" كما أذاع التلفزيون المصري مسلسل ""فارس بلا جواد" وهو معاد للسامية، وأذاعت تلفزيونات عربية مسلسلا آخر معاد للسامية بعنوان "الشتات"... إلخ".

وبقدر ما يدين القانون الأعمال المعادية للسامية فإنه يقرر إنشاء مكتب بوزارة الخارجية الأميركية لمراقبة معاداة السامية ومكافحتها "المادة الخامسة"، ثم يربط علاقة أميركا في كل المجالات وخصوصا السياسية والاقتصادية والعسكرية، بدول العالم بمدى انصياع هذه الدول للقواعد التي حددها لمكافحة معاداة السامية، بما في ذلك إصدارها لقرارات وإجراءات "لمجابهة تلك الهجمات، والقضاء على الحملات الإعلامية والتحريض، وإصدار وإنفاذ قوانين خاصة لحماية حقوق اليهود" - المادة السادسة.

وقبل أن يمر شهران على صدور هذا القانون الذي لا هدف له إلا حماية السياسة الإسرائيلية العدوانية من النقد والإدانة، قبل حماية اليهود في العالم، أصدرت الخارجية الأميركية تقريرها الأول في الأسبوع الماضي، والذي كان مفترضا أن يصدر كل عام وفق التقاليد الحاكمة للتقارير السنوية الأخرى التي تصدرها، مثل التقرير السنوي لحقوق الإنسان، والتقرير السنوي للحريات الدينية على سبيل المثال.

ولكن للتعجل في إصدار تقرير متابعة ومكافحة معاداة السامية ضرورة قصوى، تتمثل في الإسراع بمواجهة حملة الاستنكار والإدانة الدولية للعدوان الإسرائيلي المتصاعد ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، ومن ثم حماية الجرائم الإسرائيلية ضد الإنسانية في الضفة الغربية وغزة، فضلا عن حماية الجدار العنصري الذي أدانته محكمة العدل الدولية علنا، والخوف كل الخوف، أن نسمع صوتا في الكونغرس أو في الإدارة الأميركية غدا، يطالب بتطبيق هذا القانون الأخرق على قضاة هذه المحكمة؟ بل سنسمع من يطالب بتطبيقه اليوم قبل الغد على دول عربية وإسلامية عدة، صارت رقابها تحت السكين.

* **

يقع التقرير في 45 صفحة، وهو منشور على موقع وزارة الخارجية الأميركية الإنترنت، منذ ساعة صدوره في الثانية والنصف "بتوقيت واشنطن" يوم 5 يناير 2005 بحضور مساعد وزير الخارجية لشئون الديمقراطية وحقوق الإنسان والهولوكوست السفير "مايكل كوزاك"!

ويضم التقرير جزأين رئيسيين، المقدمة التحليلية التي تتحدث عن ظاهرة معاداة السامية وتصاعدها، ويركز علي الفترة من أول يوليو/ تموز 2003 حتى 15 ديسمبر/ كانون الأول ،2004 وخصوصا في أوروبا والشرق الأوسط، ودور وسائل الإعلام الحديثة في تأجيج هذه الظاهرة عبر ما يسميه التحريض، ثم يصل إلى الإجراءات المتعددة التي ينبغي اتخاذها لمكافحة ظاهرة معاداة السامية.

أما الجزء الثاني، بعد المقدمة، فيتناول مسحا لأوضاع معاداة السامية "درجة التصعيد أو التهدئة"، في 38 دولة أوروبية وأوروآسيوية كما يصنفها مثل تركيا وأوزبكستان وغيرها، ثم يدخل على الدول العربية والإسلامية، فيذكر تحديدا حالات مصر والعراق وإيران ولبنان والمغرب وفلسطين المحتلة "يسميها الأراضي المحتلة" والمملكة السعودية وسورية وتونس والإمارات المتحدة واليمن، وبعد ذلك يتعرض لدول أميركا الجنوبية وآسيا.

وإذا كان كاتبو التقرير - وهم قطعا من غلاة الصهيونية الأميركيين - ينتقدون تصاعد ظاهرة معاداة السامية في دول أوروبية مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا واليونان فضلا عن روسيا، فإنهم يشيدون بالإجراءات الحكومية والقوانين التي صدرت في هذه الدول لمواجهة هذا التصاعد من ناحية، ثم يرجعون سبب عودة هذه الظاهرة إلى أوروبا، بعد النازية، إلى زيادة المهاجرين العرب والمسلمين إلى الدول الأوروبية المختلفة حاملين معهم ثقافاتهم وعاداتهم وأفكارهم الشريرة!

وبالمقابل يشن كاتبو التقرير هجوما قاسيا على الدول العربية والإسلامية، ويخصون "بعنايتهم" مصر وسورية تحديدا، ويتهمون حكومتي البلدين صراحة بالتغاضي - إن لم يكن التشجيع - عن الهجمات المستمرة على اليهود، والتحريض على كراهيتهم والتعرض لمصالحهم وإيذائهم نفسيا وجسديا، عبر الصحافة والإعلام والتصريحات السياسية العلنية، بما في ذلك "تشبيه القادة الإسرائيليين بقادة النازية، وتحويل علم "إسرائيل" ونجمته السداسية إلى الصليب المعقوف رمز علم هتلر"!

وعلى رغم حزمة الأكاذيب التي يمتلئ بها تقرير الخارجية الأميركية الأحدث، وعلى رغم روح التملص والتزييف في الرصد والتحليل فيه، فإن المسألة لا تقف عند هذا الحد، ذلك أن صانعي السياسة الخارجية الأميركية، مطالبون بنص القانون الخاص بمكافحة معاداة السامية الذي أشرنا إليه، بضرورة مراعاة رسم علاقات أميركا بالدول المعنية، وفق معايير هذا القانون من ناحية، وطبقا لنتائج وتوصيات التقرير السنوي من ناحية أخرى، وخصوصا إذا تعلق الأمر بالتعاون والمساعدات!

ولذلك لم يكن غريبا، أن يخرج عضو الكونغرس "لانتوس" مهندس القانون والمحرض على سرعة إصدار التقرير، منتفخا منتفشا ليقول: إن صدور هذا التقرير يشكل الخطوة الأولى، لتبدأ بعدها خطوات عملية أخرى، لمحاسبة الذين يدينهم التقرير السنوي، ولم يكن غريبا أيضا أن تسارع أهم منظمات اللوبي الصهيوني الأميركي، مثل إيباك ورابطة مكافحة التشهير، بالترحيب بـ "الخطوة الأميركية الشجاعة" لوقف موجة معادات السامية!

* **

وبقدر الخلط المتعمد في مفهوم "السامية" بقصد قصره على اليهود من دون العرب الساميين مثلا، ونشر مظلة حمايته على "إسرائيل" بكل عدوانيتها وخرقها لكل القوانين الدولية والأخلاقية والإنسانية، بقدر الخلط المتعمد الآخر، بين الإرهاب والإسلام، الذي أصبح سيفا معلقا على كل رقبة وتهمة جاهزة وعقوبة فورية... وهذا هو الخطر الداهم الذي ينتظرنا جميعا، دولا وشعوبا، جماعات وأفرادا، وخصوصا الساسة والمثقفين والكتاب والصحافيين، وها هو قد لحق حديثا بتلفزيون "المنار" اللبناني الذي منعته فرنسا من البث، ووضعته أميركا على قائمة المنظمات الإرهابية، لا لشيء إلا أنه صوت المقاومة!

وطبقا لتسلسل الأشياء، إذا مددنا الخط على استقامته، فإن إحدى التهمتين، معاداة السامية أو مناصرة الإرهاب، ستطول الكثيرين منا في المستقل القريب، وخصوصا أن القانون الأميركي المشار إليه، يكلف السفارات والإدارات الأميركية في كل بلاد العالم، برصد ما تراه معاداة للسامية أو تشجيعا على الإرهاب، والحمد لله فإن السفارات الأميركية في بلادنا المستباحة تعمل ليل نهار من دون تقيد بقيود دبلوماسية أو حدود قانونية، وكأنها مركز الحكم ومقره العامر، والمفتش العام على الأحوال والأوضاع. والهدف النهائي هو إسكات كل صوت ناقد أو معارض للسياسة الأميركية والمخططات العدوانية الإسرائيلية، وهو إلغاء كلمة المقاومة فضلا عن الوطنية والقومية من قواميس اللغة، وهو إخراس حرية الرأي والتعبير وتكميم الصحف والإعلام المتهمة تارة بمعاداة السامية، حين تهاجم السياسات الأميركية في العراق أو العدوان الإسرائيلي في فلسطين، والمتهمة تارة ثانية بأنها تشجع الإرهاب والتطرف والتعصب الراديكالي، حتى حين تتجاسر - أحيانا - بنقد نظم الحكم الصديقة لأميركا والمتجاهلة لكل ما يجري في فلسطين الذبيحة!والأمر على هذا النحو يوقع الجميع في مأزق وحيرة بالغة، ففي الوقت الذي تدعي أميركا أنها تريد إصلاحا ديمقراطيا في الدول العربية والإسلامية، فإنها عمليا بمثل هذه القوانين الجائرة والتقارير المنحازة، تمارس انتهاكا فظا لكل مبادئ الحرية وقواعد الديمقراطية، وفي مقدمتها حرية الرأي والتعبير والصحافة.

وفي الوقت الذي يستصرخ فيه "المتأمركون العرب" واشنطن لكي تضغط على الحكومات العربية والإسلامية، بل لكي تتدخل مباشرة في الشئون الداخلية، باسم الإصلاح الديمقراطي، تستعين هذه الحكومات المستبدة بمثل هذه القوانين والتقارير الأميركية، بما تفرضه من قيود وحدود، لكي تحكم هي قبضتها الحديد على الأوضاع، وانظر كيف استفادت حكوماتنا الرشيدة، بما أصدرته أميركا بعد هجمات سبتمبر/ أيلول ،2001 من قوانين وإجراءات مقيدة للحريات، لمكافحة الإرهاب، وخصوصا القانون الوطني "باتريوت آكت" الشهير، لكي تسير على منواله وتبالغ في تقييد الحريات وإجهاض الإصلاح الديمقراطي الحقيقي هنا... وها هو قانون وتقرير مكافحة معاداة السامية، قد جاءاها على طبق من فولاذ، لكي تزيد حكوماتنا من تقييد الحريات، وخصوصا حرية الرأي والصحافة، بحجة تفادي الوقوع تحت طائلة القانون الأميركي إياه، الذي نراه مناقضا لكل ما هو ديمقراطي، ومخالفا للمبادئ والقيم التي قامت عليها الليبرالية الأميركية، من إعلان الاستقلال، إلى الدستور الأميركي بتعديلاته المختلفة، وصولا إلى انقضاضه الفظيع على الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، من حيث الشكل والموضوع جوهرا ومخبرا...

وعلينا إذن أن ننتظر المزيد من معارك الحرية ومحارقها! لكن المعارك تحتاج إلى عقول نافذة وجهود حثيثة، والمحارق تستدعي التضحية والبذل والمقاومة، قبل أن يلحقنا الطوفان المدمر، ولا نظن أن شعوبنا قد همدت وخمدت إلى الحد الذي تستسلم طواعية لطوفان غادر، يهاجم باسم الحرية، ويدمر كل مبادئ الحرية!

خير الكلام

قال ابن خلدون: الاستبداد يلعب دورا رئيسيا في انحطاط الدول وفنائها..

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 859 - الثلثاء 11 يناير 2005م الموافق 30 ذي القعدة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً