العدد 865 - الإثنين 17 يناير 2005م الموافق 06 ذي الحجة 1425هـ

محامي الجماعات الاسلإمية ومذكرات الانقلابيين

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

كتاب "الجماعات الإسلامية رؤية من الداخل" الذي صدر أخيرا في القاهرة، وكتبه، كما يحب أن يقدم نفسه، محامي الجماعات الإسلامية، منتصر الزيات، له معنى أكثر بكثير من السرد نفسه. فالمهتم بتطور الفكر التكفيري وترجمته من دعوة باللسان إلى قتال بالرصاص في منطقتنا، يجد أن لديه الكثير من المصادر، على الأقل في الـ 50 عاما الأخيرة، وافرة بالمعلومات وكثيفة الأطروحات. أهمية كتاب منتصر الزيات أنه يحكي لنا من الداخل، ما حدث وكيف حدث، ولكنه يقصر عن القول، ربما بإرادة أو بغيرها، لماذا حدث ما حدث؟ وهو أمر متروك لمن يقرأ ويستخلص الأحكام.

دعونا نتبصر في عدد من القضايا التي طرحها هذا الكتاب، قبل أن نقدم رؤية شمولية عن الإجابة على سؤال، لماذا حدث ما حدث، أو لماذا لايزال ما يحدث يتم بين ظهرانينا؟

في التكتيك يعطينا منتصر وضعا كلاسيكيا في "الإرهاب الفكري"، الذي يبدأ به كل إرهاب، وأي إرهاب، فيقول استنادا بالتلميح من بعيد، من دون تأكيد كتاب فكر الجهاد للإمام الشوكاني، أن "طريق الدعوة الإسلامية يمر بمراحل عدة، مرحلة الدعوة باللسان، والثانية زجر المتلقين بشيء من التخويف، والثالثة تكون باليد، أي بالعنف، هذا ما كنا نمارسه فعلا بفصل الطلبة عن الطالبات وبمنع حفلات الموسيقى والتمثيل والمسرح، مرورا بتبرير قتل المسيحيين ونهب أموالهم". ولعل القارئ يلحظ أن الاقتطاف من كتب قديمة كتبت في عصور مختلفة، أو الإشارة إلى بعض نصوصها، وتعمد فصل النص عن سياقه تعنتا، ثم الأخذ به حرفيا من دون مراجع من الأصول المتفق عليها، أو مواكبة لما تطور عليه المجتمع، هو أحد أدوات "التضليل" الفكري التي تقود الشباب إلى ما يقودهم إليه من سفك الدماء، وتحريم الحلال، والادعاء بملكية الكلمة النهائية، وهو أمر لم ينقطع، ولايزال قائما في فضائياتنا وصحفنا ومنتدياتنا المختلفة، قست العبارة أو رقت فالفكرة هي التكفير وإخراج المخالف "السياسي" من الملة، تمهيدا لشطبه من المجتمع.

يتحدث الزيات في مذكراته عن شخصية محورية كان لها التأثير الكبير في تنظيم وحشد العناصر الجهادية في مصر، في مرحلة التحضير والدعوة والتنفير المطلق من المجتمع السوي في مطلع السبعينات، هذه الشخصية هي محمد سالم رحال، الذي يبدو من المذكرات التي يسردها الزيات، أنه لعب دورا محوريا في توحيد التنظيمات الجهادية في مصر، إلا انه كانت هناك علامات استفهام كثيرة في شأنه "رحال" كما يشير الكاتب، و"اختفى في ظروف غامضة خارج مصر"!

مثل هذه الشخصيات نراها تتكرر في مجتمعات أخرى بالطريقة نفسها تقريبا، كلام معسول محلى بإشارات من التراث، تسبغ على الحاضر قدسية الماضي المجيد وتقارن به حرفيا، كالقول بالمجتمع الجاهلي والردة والخروج من الملة، وأن هناك فرقة "ناجية" هي فرقة المحدث، ومن يسير في طريقه وبرفقته من دون سؤال أو اعتراض. هذه الشخصية تكاد تتكرر في المجتمعات العربية، وكأنها احتكرت التفسير والقول الفصل، بعضها يختفي فجأة من المجتمع كما فعل الرحال! والفكرة الرئيسية هي زرع القول القطعي بان المجتمع الحالي هو جاهلي، وهي فكرة تردد بمعسول الكلام أو بأغلظه.

ولاية الشيخ الضرير

لعل القضية الأخرى الملفتة في كتاب الزيات تلك العلاقة الصراعية بين أجنحة الجماعات المختلفة، لا لسبب عقائدي، بل أكثر من ذلك، ما سماه الزيات "القبلية والانتماء" للصعيد أو للوجه البحري، وأخرجت هذه الصراعات كما نتابعها في الكتاب، عن طريق فتوى، مثل هل للضرير ولاية أم ليس له ولاية، والضرير هنا هو الشيخ عمر عبدالرحمن، الذي اكتشفه بعض النشطاء من أهل الجماعات فجاءوا به وليا على أمرهم، ثم اكتشف بعضهم انه صعيدي! ذلك الصراع الشخصي ينساب كثيرا في ثنايا الذكريات للزيات، فيتحدث عن الخلاف على الرئاسة والزعامة، وكل يدلي بدلوه من نص قديم أو حديث، للارتقاء في سلم الأمر والنهي. وهو أمر يتكرر، فنرى الجماعات المختلفة كلها تدعي أنها الوحيدة التي تأخذ بناصية الفهم التراثي، وغيرها خارج عن العهد.

صلب الموضوع أن الجماعات التي أحدثت كل تلك الضجة في هذه المنطقة، ومازالت تحدثها، نظمت نفسها على الطريقة التقليدية، وإن كانت بتشوه كبير، فالقفز على السلطة هو اقرب ما يكون من خلال "اختراق المؤسسة العسكرية"، وهو أمر حدث أكثر من مرة في محيطنا العربي الموبوء بقلة التنمية، وقلة الحيلة أيضا. فهذه أطراف مؤثرة من داخل الجماعات، التي يصفها الزيات بالتفصيل، تلجأ إلى البدلة العسكرية من اجل إحداث "الانقلاب المطلوب"، هي كمثل سابقاتها من التنظيمات التي وصل بعضها إلى السلطة، ومازالت شعوبها صفر اليدين. يقول الزيات: "لقد وجدنا ضالتنا في الفكر الجهادي الذي كان يترجم حالتنا النفسية"، وهو تعبير لابد من الوقوف عنده، فالحال النفسية، تقول إن هناك شبابا يكبر عددهم ويتضاعف، واخذوا شيئا من العلم، ولكنهم بقوا على الناصية عاطلين عن العمل، يذكرنا بتعبير "جماعة الناصية" الجزائرية، الذين كانوا وقود الجماعات المتشددة هناك، فينضموا للجماعات بحثا عن التعاضد في المكره، وحلا لبعض مشكلاتهم الحياتية.

والحال إن القضية التي نحن بصددها، هي قضية اقتصادية اجتماعية سياسية، وليست دينية بالمعنى الذي يراد له أن يفهم، فهي ليست دينية لا من قريب ولا من بعيد. انه فشل في التنمية من جهة، ورفع توقعات الجيل الشاب من جهة أخرى أدى إلى هذا المأزق. ووجد هذا الجيل متنفسا له بالخروج على الدولة، وحمل السلاح والوقوف أمام الحاكم.

ولم يكن الحاكم بعيدا عن قصر النظر أيضا، فالحكومات دائما قصيرة النفس، والأكثر قصرا ما لدينا. فنرى الزيات يقول لنا دون لبس أو إنكار أن نظام الرئيس السادات الذي وجد نفسه عاجزا عن تقديم حلول حقيقية لما يواجه المجتمع من معضلات، أطلق "الجماعات" في وجه منافسيه السياسيين، أو ما اعتقد أنهم منافسوه، وهي حقيقة عاد إليها كل من تابع مآسي السبعينات والثمانينات حتى يومنا، ولها توثيق كامل في أكثر من مصدر مكتوب أو مشاهد "أكدت ذلك السينما المصرية في فيلم السادات وغيره"، حتى على المقلب الآخر من البلاد العربية، ففي الجزائر إبان عشرية الصراع انبثقت عبقرية الأمن العسكري على استخدام الدواء من الداء نفسه، فشجعت السلطة كما توثق اليوم في أكثر من وثيقة، قوى متطرفة من النظام نفسه، لتصفية قوى متطرفة من الجماعات. إذا؛ تحت شعارات المجتمع الجاهل، وإقامة دولة "الخلافة الإسلامية"، اندفعت ثلة من شباب العرب، وهي في ضياع كامل عما حولها، ولا تجد ثمة أملا مرتجى في تحسين وضعها المعيشي، والتقط هذا الوضع اليائس رجال أرادوا السلطة والزعامة، فانتشرت تلك الأفكار، حتى قادت إلى بحر من الدماء، مازلنا نشهده اليوم في أكثر من ساحة عربية.

خلاصة الحديث ان ما يرويه منتصر الزيات ليس تاريخا كما يعتقد البعض، ما يرويه هو ما يجب إن ينتبه إليه، من أجل أخذ العظة، وأكثر من العظة، فتح طريق أفضل لتنفيس هذا الإحباط الذي يشكل الدافع الرئيسي لكل هذه الفوضى التي تدفع الشعوب أثمانا باهظة من أمنها واقتصادها وحريتها. لقد اكتشف الزيات في آخر المطاف، كما اكتشف آخرون من قبله ومن خلال الطريق الصعب المزروع بالتعذيب والاهانة والحرمان وفقدان الكرامة، أن الانقلاب على الحكم ليس مرصوفا ببضع كلمات من التراث مجتزئة من سياقها، أو بحشد البسطاء وغيرهم بأفكار طوباوية منقطعة عن العالم وما يسير فيه وحوله.

الطريق إلى الإصلاح يحتاج أكثر من ذلك، أول ما يحتاج إليه برنامج حديث يتعاطى مع المشكلات الشاخصة بوعي وبمسئولية بعيدة عن تقليد بعض ما نجح من انقلابات عسكرية أو غيرها، فحتى تلك التجارب لم تستطع أن تقدم الحلول الحقيقية للمشكلات الحياتية، غير كثير من الشعارات، وقليل من الخبز والحرية.

الطريق إذا مختلف، ولكن الفكرة المركزية التي وصل إليها الزيات لم تصل إلى كثيرين حتى الآن، فقد قال: "لقد كنا نظن انه بمجرد قتل الرئيس السادات سيخرج الجمهور من أسوان للقاهرة مؤيدين رافعين شعار الدولة الإسلامية، وظهر له صبيحة الحدث الكبير في شوارع أسوان وهو يقطعها جيئة وذهابا، إن ذلك خداع للنفس، وان كل ما قيل له هو ترهات، إلا إن هذه الترهات مازال يغذى بها جمهور عريض في وسائل إعلامنا من ثلة مستفيدة، تحرض على حرب الشوارع وقتل الأبرياء والخوض في الدم حتى أكواعهم المترعة بسكرات الماضي والجري وراء السراب، وهو فكر يهيئ لجماعات أخرى أن تظهر بألوان جديدة

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 865 - الإثنين 17 يناير 2005م الموافق 06 ذي الحجة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً