العدد 872 - الإثنين 24 يناير 2005م الموافق 13 ذي الحجة 1425هـ

الفارق... شعرة

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

بين الاعتداد بالنفس والغرور شعرة. .. من قال هذا؟ لا ادري، لكنني اعرف يقينا ان بين الاعتزاز القومي والشوفينية شعرة أيضا. من قال هذا أيضا؟ هل تحتاجون إلى اسم يضفي شيئا من الحكمة على أبسط درس يمكن أن نتعلمه مجانا من الحياة؟ إن لم يعلمنا الواقع هذا فلا معنى لأي اسم نورده هنا، فهذه هي الحقائق الاولى والاساسية التي يتعين علينا ان نتعلمها دونما حاجة لتلقين من أحد.

أما نحن المبتهجين اليوم بحرية التعبير فعلينا أن نتعلم أيضا أن بين "حرية التعبير" و"انتهاك" حق الآخرين شعرة أيضا، من علمنا هذا؟

استعراض آخر من استعراضاتنا المجانية في الدفاع عن رأينا، استعراض اسمه: "مسرحية حب في الفلوجة". ما نسيناه في غمرة هذا الاستعراض هو معنى حرية التعبير ولا شيء سواه.

قيل ان الضجة التي أثارها المعترضون على الاسم "وهذا من حقهم" رفعت أسهم المسرحية. وقيل ان المسرحية حظيت بدعاية مجانية لم تكن لتحلم بها. وقيل ان المسرحية ربما لا ترقى الى أكثر من استعراض على خشبة مسرح. وقيل ان المعترضين يعتزمون رفع قضية في المحكمة ضد أحد الكتاب الذين كتبوا على الضد من رأيهم. وتم شرح القضية بدقة: قضية مدنية وليست جنائية. ألا يذكركم هذا بشيء؟

يؤسفني أن أقول للاخوة المعترضين "وهم إخوة أعزاء" ان ذاكرتي وعقلي لم يسعفاني على تذكر شيء مشابه سوى ردود فعل اليهود حيال "الهولوكوست" والكيفية التي ابتز فيها اليهود والصهاينة العالم حتى اليوم بالمحرقة. لقد أصبح القانون غير المكتوب في الاوساط الثقافية والسياسية في الغرب ان المحرقة لا تذكر الا من باب استدرار التعاطف والدموع على الضحايا من اليهود ولا شيء آخر. لقد ذاعت قصص اولئك الكتاب والباحثين الغربيين الذين حاولوا الاقتراب من موضوع "الهولوكوست" والكيفية التي كانت تقابل بها هذه المحاولات من المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة أو في غيرها من الدول، المصير بالنهاية تحدد: ارهاب فكري سائد ونفي مطلق لكل من يتجرأ ويكتب عن المحرقة حتى من وجهة نظر أكاديمية.

ولعل من المفيد هنا أن نذكر الاخوة المتحمسين بما لاقاه المفكر الفرنسي روجيه غارودي من الدوائر اليهودية في فرنسا عندما كتب بحثه عن الهولوكوست في الثمانينات. هكذا ينطوي الامر على مفارقة كما ترون، والضجة كلها التي ربما تعزى الى حرية التعبير عن موقف تطورت الى ما هو ابعد.

ألا يحق ذكر الفلوجة أبدا إلا من وجهة نظر واحدة؟ كيف يبيح أصحاب وجهة النظر هذه أن يرفعوا أصواتهم برأيهم ويفرضوا على غيرهم ان يغير في مفرداته ان هو اراد الحديث عن الموضوع نفسه؟ اليوم الفلوجة وغدا قضية أخرى وعنوان آخر، بمثل هذه الروح سنظل نوالي ترسيخ تقاليد لا تفرق بين حرية التعبير والترهيب. ومثل غيري أشعر بالضجر أحيانا من الخوض في موضوعات كهذه والامر لا يتعلق بالقضية نفسها بقدر ما يتعلق بسلوكنا نحن وطريقتنا في التعبير عن مواقفنا.

ونحن نوالي ممارسة حرية التعبير، نوالي الخلط كثيرا، فهذه الحرية في التعبير بات لها بعد حسي ملموس: تلطيخ الاعلانات في الشوارع، هذه هي الجرعة الزائدة، ثمرة المزيج الخطر بين حرية "التعبير والتعصب". لقد تجاوزنا الشعرة.

ولكم أن تروا كيف أن بناء منازل لمن كان يسكن في بيوت من السعف بات يستدعي احتجاجا من الاهالي أو في أحسن الاحوال مناسبة لتذكير السلطات بأن هناك مواطنين آخرين ينتظرون دورهم في الحصول على مسكن مناسب. عدالة المطلب مسها بلاريب سوء التوقيت وسوء اختيار المكان لتعطينا بالنهاية إحساسا لابد منه: "شيء من مشاعر الحسد". ليست هذه المناسبة الوحيدة، فطالما ان مفردة مواطن أصبحت مفصلة اليوم على مقاسات عدة ولا تتسع لنا جميعا، رأينا كيف ان القانون غير المكتوب الآن بين الناس بات ينطوي على شيء من التباغض: تلبية مطلب ما لأهالي هذه المنطقة أو تلك يثير حفيظة أهالي المناطق الاخرى.

هل أدركتم أين تقف الشعرة من كل هذا؟ الشعرة التي تجعل الفارق واضحا بين حرية التعبير والترهيب وتجعل من ينساها يلحق أشد الضرر بأكثر القضايا عدالة

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 872 - الإثنين 24 يناير 2005م الموافق 13 ذي الحجة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً