العدد 889 - الخميس 10 فبراير 2005م الموافق 01 محرم 1426هـ

الأب يرسم هوية الطفل ومستقبله

ابن سينا. .. الشيخ الرئيس "2"

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

أسطورة الطفل النابغة لم تصنعها المخيلة. المخيلة زادت عليها ولكنها كانت واقعية إلى حد كبير. فالشيخ الرئيس كان نابغة منذ طفولته. وهذا النبوغ لم ينشأ من فراغ بل هو نتاج تربية دقيقة ومتابعة دؤوبة أشرف عليها والد ابن سينا مباشرة. فابن سينا يدين بالكثير لوالده الذي اعتنى به، ووفر له كل متطلبات النبوغ من علم ودراسة وأجواء أهلت الطفل ليكبر بسرعة ويدرك ما لم يدركه غيره ويسبق جيله بسنوات وأشواط.

حين قدم والد ابن سينا من بلخ إلى بخارى كانت الأخيرة تعيش في ظل الدولة السامانية في عهد واليها نوح بن منصور الساماني. فاتصل به وكلفه بتولي إدارة بعض الأعمال المالية في قضاء خرمين. هذا الاتصال غير الكثير من المعطيات الاجتماعية ووضع أسرة ابن سينا في مكان مختلف ساعد الأب على توفير ما يحتاجه الابن من اهتمام ورعاية.

إلى تحسن الدخل المالي وتوافر وسائل الرفاهية كان موقع والده "رجل دولة" نقطة اتصال سهلت الكثير من الأمور، وجعلت من داره محطة لالتقاء كل الباحثين عن العمل أو الشهرة اضافة الى ان مكانة رجل الدولة تعطي خصوصية للأسرة وميزة غير عادية من ناحية الاتصالات والمعارف والرحالة والدعاة.

آنذاك كانت الخلافة العباسية تعيش في ظل هيمنة الأسرة البويهية. ومصر دخلت في عصر الدولة الفاطمية بعد ان نجح الفاطميون في الانتقال من المغرب واسقاط الدولة الاخشيدية. واستفاد الفاطميون من وجودهم في مصر لبسط نفوذهم على بلاد الشام وصولا إلى حلب. واسهم هذا التطور السياسي في توتير الأجواء مع البويهيين في بغداد فاستغل البيزنطيون في بلاد الاناضول الأمر فحصلت مناوشات انتهت إلى توقيع اتفاق صلح بين الفاطميين والبيزنطيين في العام 377هـ "987م". أعطى اتفاق الصلح بلاد الشام فرصة للهدوء والاستقرار وزاد من تأزم العلاقات في بغداد وخصوصا حين خلع الخليفة العباسي الطائع واستخلف القادر في العام 381هـ "991م".

تجميد الجبهة العسكرية مع البيزنطيين زاد من صعوبات التفاهم العباسي - الفاطمي وأسهم في توتير العلاقات وتحديدا تلك المتصلة بالنفوذ على بلاد الشام. فالصراع العباسي - الفاطمي على المشرق العربي ولد سلسلة حركات واتجاهات سياسية وعقائدية أحدثت فضاءات أيديولوجية "فكرية" امتدت وانتقلت إلى أكثر من مكان وزمان بدءا من الشام ومصر وصولا إلى العراق وبلاد فارس وبخارى.

في تلك الفترة المشحونة بالتوتر السياسي ظهرت عصبيات ومدارس فكرية لم تشهدها الخلافة العباسية من قبل بحكم هيمنة البويهيين في بغداد وبسط الفاطميين نفوذهم في مصر. ففي ظل هذا التوازن السلبي انتعشت الحركة الاسماعيلية في الشام وازدهرت وعرفت مدارسها وفرقها الانتشار. وكذلك استفادت حركة "اخوان الصفا" السرية من هذا المناخ فأقدمت على نشر رسائلها علنا من دون خوف من ردود الفعل أو الملاحقة.

ظهور رسائل "اخوان الصفا" للمرة الأولى علنا ومجموعة كلها في كتاب "52 رسالة" في العام 373هـ "983م" يعتبر إشارة واضحة على الارتياح الذي بدأت تلاقيه الحركات الباطنية في تلك الفترة.

تختلف حركة "الاخوان" عن حركة المعتزلة في أنماط سلوكها ومدارسها وفرقها وأفكارها. فالمعتزلة بدأت حركة عقائدية "نقدية" علنية واضحة المنهج والطروحات وتطورت وتحولت وتشرذمت قبل وبعد ان تحولت الى حزب سياسي "ايديولوجي" نجح في السيطرة على السلطة في مطلع العهد العباسي وفرض شروطه ومارس الاستبداد والقمع ولاحق العلماء والفقهاء والقضاة واضطهد كل من يخالف رأيه. الا أن المعتزلة كانت في النهاية حركة علنية ولم تلجأ إلى السرية وكانت أفكارها واضحة على رغم اختلاف شيوخها ورموزها. فشيوخ المعتزلة مارسوا نفوذهم بوضوح وكان الشيخ لا يخجل بأعماله وأفكاره وكان لكل فرقة شيخها ولكل شيخ تيار من المريدين يدافعون عنه وينشرون أفكاره واجتهاداته.

هذا السلوك العلني لم تمارسه تيارات "اخوان الصفا". فالاخوان كانت أقرب إلى الحزب السري "العقائدي" يعتمد على نشاط خفي وينشر خلاياه وأفكاره بأسلوب باطني. فقيادة الحزب كانت سرية، كذلك شيوخه ورجاله وأفكاره وبرنامجه. وهذا الأمر يشكل نقطة افتراق مهمة عن المعتزلة التي لم تتردد في اخفاء طموحاتها السياسية وفي تحديد برامجها وميولها وأفكارها التي تناثرت على عشرات الفرق والمدارس.

السرية أو "الباطنية" كان جوهر عمل ما عرف بـ "إخوان الصفا". فهذه الحركة تزامن نشوء نواتها الأولى بعد المعتزلة، ولكنها التزمت الصمت على أفكارها وتداولت برامجها سريا وضمن منظومة علاقات تنظيمية خفية. وبسبب الطابع السري لحركة "الاخوان" أحاط الغموض أفكارها. فالرسائل لم تكتب في وقت واحد. وقادة "الاخوان" تناوبوا على إدارة الحركة وتوجيهها في أوقات متباعدة أمتدت إلى أكثر من 200 سنة. لذلك اختلفت الرسائل وتعددت وتنوعت وتناقضت بحسب الفترة التي كتبت فيها والشيخ الذي صاغها والأفكار التي عبر عنها.

وحين صدرت الرسائل مجتمعة للمرة الأولى ظهرت تعارضاتها وانكشف اختلاف أفكارها ومناهجها، فهي تجمع كل تناقضات العصر وفيها الإسلامي وغير الإسلامي. فكل رسالة تعارض أختها. فهناك رسائل يغلب عليها الطابع الإسلامي والفقهي وهناك رسائل تورطت في تفسيرات وتحليلات وقراءات خلطت الفلسفة بالفقه والعلوم المتداولة في هذا العصر أو ذاك بالتفاسير المجمعة من مصادر مختلفة.

اختلاف مناهج وأفكار وبرامج وآراء "اخوان الصفا" كلها أمور تؤكد ان الرسائل كتبت في فترات مختلفة وصاغها شيوخ عاشوا في أوقات غير متقاربة وأشرفت على قيادة خلاياها سلسلة من الرموز في ظروف وسنوات متباعدة. وحين نشرت رسائل "الاخوان" في العام 373 هـ كانت الحركة السرية قد شارفت على نهايتها وتبعثرت الى مجموعات تفرقت إلى جهات غير معروفة وتلاشت أو اندمجت في مدارس أخرى توزعت على أطراف الخلافة. فتأسس حركة الاخوان غير معلوم ونهاياتها غير معلومة. وهذا ما يميز حركة المعتزلة عن حركة الاخوان. فالاولى صريحة وعلنية وواضحة الاتجاه والتوجه على تعارضات مدارسها الكثيرة بينما الثانية سرية ويغلب عليها الطابع الايديولوجي وأهدافها خفية ونشاطها غير منظور.

الا أن نشر الرسائل وظهورها علنا للمرة الأولى في اطار سلبيات الصراع العباسي - الفاطمي على بلاد الشام احدث تأثيراته وشجع الكثير من الحركات الباطنية على اعلان بعض توجهاتها والكشف عن أفكارها ومدارسها السرية. فبعد نشر الرسائل تشكلت مناخات من النقاش الفكري وتوسعت فضاءات جديدة للتفاسير وتأويل القرآن امتدت على مساحات واسعة من مصر والشام والعراق وإيران وصولا الى بخارى.

في بخارى كان والد ابن سينا يمارس وظيفته كرجل دولة في قضاء خرمين وفي الآن بدأ يرتب أمور تربية ولده الصغير وأحاطه بالكثير من العناية والاهتمام. فوالد ابن سينا لم يكن بعيدا عن كل تلك التغييرات السياسية وكان يتابع بدقة الفضاءات الثقافية والفكرية التي تولدت في تلك المرحلة. فهو لم يتردد في إعلان دعمه للدعوة الفاطمية التي امتدت من المغرب إلى مصر وأخذت تندفع من مصر إلى بلاد الشام محاولة مد نفوذها إلى بلاد الرافدين وبلاد فارس.

وفي هذه الاجواء قويت شوكة الحركة الاسماعيلية وبدأت أفكارها وتنظيماتها ورسائلها تنتشر وتنتقل من مكان إلى آخر وصولا الى مصر وبخارى. فوالد ابن سينا كان قريبا من الاسماعيليين وربطته بهم علاقات جيدة وزيارات متبادلة ودارت بينه وبينهم نقاشات ومحاورات فلسفية في داره وعلى مسمع من الطفل الصغير الذي يبدو انه انتبه الى ما يدور حوله من أفكار ونظريات.

نشأ ابن سينا اذا في بيئة اسماعيلية وتأثر بتلك الأفكار الفلسفية والتحليلات والتفسيرات التي سمعها في دار والده حين كان النقاش يدور عن العقل والنفس واليونان والفرس والهند وحران. فوالده المؤيد للدعوة الفاطمية وصديق الاسماعيليين ورجل الدولة الباحث عن دور ثقافي وجد في الطفل الصغير ضالته المنشودة التي يحتمل ان تعوض ما فات الأب من طموحات عاندتها ظروف مختلفة في المكان والزمان.

ظروف الابن كانت مختلفة عن ظروف الأب. فالابن عاش في عصر توازنت فيه مراكز القوى السياسية بين العباسيين والفاطميين ودخلت بلاد الشام فترة هدنة مع البيزنطيين وانتشرت فيها الكثير من الأفكار والمدارس والرسائل في مرحلة شهدت بغداد خلافات بين البويهيين هددت استقرار الخلافة. وفي هذا الفضاء نشأ ابن سينا وعاش في وسط أسرة عرف عنها الانفتاح ما عزز ميول الطفل نحو القراءة والمتابعة والقبول بالاختلاف والتنوع والتعدد والتسامح وعدم التعصب لفكرة. فالكل موجود في دار رجل الدولة الذي يستقبل مختلف الاتجاهات ويستمع إلى الشكاوى والآراء على أنواعها. فموقع الأب اتاح للابن حياة هانئة ومتكيفة وغير قلقة وهذا أعطى فرصة اضافية لابن سينا للاطلاع والقراءة مستفيدا من امكانات والده الذي بذل جهده لتوفير ما تتطلبه عبقرية طفله. استفاد الابن من اختلاف الظروف الا أنه كان أسير الاب وطموحاته.

لا يعرف اذا كان ابن سينا على المذهب الاسماعيلي أو اعتنق ذاك المذهب الا انه في الحد الأدنى اطلع عليه وعايشه وعاين مقالاته لاحقا. الا ان المعروف عن والده انه حرص على تحفيظ الطفل القرآن وعلومه. وبين 373 هـ و380 هـ نجح الأب في تعليم الابن القرآن وتدريسه علوم الفقه والأدب فنبغ كما تقول "الاسطورة" في سن العاشرة وتفوق على جيله وظهر عليه، فانتبه الأب لعبقرية الابن فزاد اهتمامه به وبعثه ليتعلم الفقه على يد اسماعيل الزاهد ثم ارسله لتعلم الحساب. وحين جاء عبدالله النائيلي الى بخارى ارسل الاب ابنه ليدرس الفلسفة على يديه. وحين تعلم هذا الفن أرسله ليدرس فن الطب وبرع فيه وبدأ بالمعالجة وهو في سن 16 من عمره كما تقول الروايات المنقولة عن حكايات الأسطورة.

ابن سينا الآن لم يعد ذاك الطفل المدلل. فهو شب وشاب باكرا وأصبح يكتب المقالات ويناظر ويطبب الناس ويدرس ويتعلم ويقرأ من دون ملل أو كلل مستفيدا من مكتبة الحاكم الساماني ابن منصور. فالابن الآن بدأ يكتشف نفسه ودربه برعاية الأب وإشرافه. فهو الطفل/ الشيخ كذلك الشاب العبقري الذي لم يخرج عن دائرة رسمها له الاب الطموح. فهو الشاب المدلل الذي يبحث عن هوية ضاعت وسط كتب وصداقات وعلاقات لا هوية لها

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 889 - الخميس 10 فبراير 2005م الموافق 01 محرم 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً