العدد 906 - الأحد 27 فبراير 2005م الموافق 18 محرم 1426هـ

الديمقراطية الحقيقية بوابة للعدل وفصل السلطات

محمد المطوع comments [at] alwasatnews.com

-

لقد ذكرني موضوع إجراءات المحاكمات بقصص كثيرة ومؤلمة عاشتها المجتمعات العربية نتيجة سيطرة قوانين الطوارئ وقوانين أمن الدولة والاعتقالات التعسفية، والمحاكم الاستثنائية والعسكرية ومحاكم أمن الدولة التي ذهب ضحيتها خيرة الشباب والمفكرين والسياسيين. ومن الواضح أن كل تلك الاجراءات من غير استثناء لم ولن تتوافر فيها أية معايير للمحاكم العادلة.

وتحضرني بهذا الشأن الكثير من القصص المؤلمة التي عملت على حلها الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان في بداية الانفتاح مع مطلع هذا القرن. أذكر قصة الشاب الذي جاء للجمعية يحمل همه الذي سيلاحقه طوال عمره. يقول هذا الشاب انه كان في زيارة للمقبرة لتلاوة الفاتحة على أحد اقربائه وتصادف وجوده مع تظاهرة لزيارة قبور شهداء الانتفاضة السابقة التي صورتها قناة البي بي سي. وظهرت صورته صدفة على شاشات التلفزيون فكانت القاضية عليه وعلى مستقبله على جميع الأصعدة الشخصية والوظيفية. لقد زج بهذا الشاب في السجن وتعرض لتعذيب كان من نتيجته عاهة مستديمة وخسرانه لمستقبله الوظيفي الواعد. هذا الشاب قال: "أعرف أنكم تستطيعون علاجي ولكنني أسأل: ما ذنبي؟" أقول لهذا الشاب وغيره: لو توافرت لكم شروط عادلة للمحاكمات من بداية الاعتقال والتحقيق إلى المثول أمام العدالة لما حدث ما حدث.

وأنا لا أقصد من قصة هذا الإنسان والكثيرين غيره نبش الماضي ولكن قصدي إحياء الذاكرة، ففي رأيي ان مثل هذه القصص لا يجب أن ننساها بل يجب ان تبقى في ذاكرة هذا الجيل والأجيال التالية، ليس من أجل استنهاض الأحقاد على أحد بل للحقد المشروع على ممارسة الظلم وكرهه، وتعليم الأجيال مدى الضرر الذي يتسببه غياب العدالة على المجتمع كافة، ومن أجل احترام مبادئ حقوق الإنسان التي لاتزال الكثير من الأنظمة العربية تتشدق بها وتمارس عكسها.

إن هذه الممارسات كانت سائدة مرة تحت ذريعة محاربة الشيوعية، تلك الاسطوانة المشروخة التي رددتها الأنظمة القمعية وراح ضحيتها الكثيرون، إذ كان ينظر إلى الشيوعية كتهمة وليس كأيديولوجيا يمكن التحاور معها. وعندما انتهت حقبة الشيوعية صارت اليوم المطالبة بلقمة العيش الكريمة والديمقراطية تهما وجدت تلك الأنظمة لنفسها بها ذرايعة للزج بالمئات بل الألوف في السجن لسنين لا يعلمها إلا الله وتغييب بعضهم في ظلمات القبور. ومازالت هذه الممارسات سائدة تارة تحت ذريعة محاربة العلمانية، وتارة أخرى باسم محاربة التطرف الديني والإرهاب.

لقد نادى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية وغيرهما من المواثيق الدولية لحقوق الإنسان بالحق في محاكمات عادلة، وان المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وأكدت حقه في المثول أمام محكمة عادلة وحقه في الدفاع وفي عدم التعرض للاعتقال التعسفي والتعذيب وغير ذلك من المبادئ التي تصون كرامة الفرد وإنسانيته مهما تكن جريمته.

إن البوابة الحقيقية لتحقيق اجراءات عادلة للمحاكمات تمر عبر تحقيق الديمقراطية الحقيقية، وفصل السلطات الثلاث وضمان استقلال القضاء ونزاهته، ووجود دستور وقوانين عادلة، والمساواة أمام القانون وفي القانون. إذ إن المحاكمة العادلة لا تمارس التمييز وطمس الحقائق لحماية الأنظمة السياسية أو المتنفذين فيها. ومن ضمن الشروط الواجب توافرها كذلك الخبرة المهنية للجهاز القضائي بما في ذلك النيابة العامة بوصفها شعبة أصيلة من شعب القضاء، ومعرفة القضاة بمبادئ حقوق الإنسان إلى جانب القوانين والدستور الوطني وغير ذلك من الشروط. وما يؤسف له أن الشطر الأكبر من هذه الشروط لا تتوافر في الأنظمة القضائية لغالبية الدول العربية. ولا يفوتني هنا التذكير بأهمية التصديق على نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية والعهدين الدوليين واستكمال الانضمام للمواثيق والمعاهدات الدولية ورفع التحفظات عنها، وبالتالي تعديل القوانين الوطنية لما يشكله ذلك من ضمان للمواطن في نظام قضائي عادل.

ولابد لي من ضرورة التنويه بما يتضمنه النظام الإسلامي في البدايات الأولى لنشأة الدولة الإسلامية من حرص على الاجراءات العادلة للمحاكمات. وأذكر هنا قصة الإمام علي بن أبي طالب "ع" الذي رفض ان يدعوه القاضي بأمير المؤمنين وأصر على أن يسميه باسمه المجرد وأن يقف مع خصمه أمام القاضي. ان استنباطنا لمثل هذه القصص والأخذ بعبرها ونشرها بين الجيل القادم من شأنه أن يربي شبابنا على احترام مبادئ حقوق الإنسان في سلوكياتهم ويرسخ إرثنا التاريخي الذي يحارب الظلم والفساد ويدعو للعدالة واحترام بني البشر وكرامتهم.

* عضو الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان، والكلمة ألقاها في افتتاح الدورة التدريبية لاجراءات المحاكمات

العدد 906 - الأحد 27 فبراير 2005م الموافق 18 محرم 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً